ملخص رسالة الماجستير: النظام النغمي لتقاليد مدرسة الإنشاد

على الرغم من أن النظام النغمي في مدرسة الإنشاد قد وُضع من قبل المشايخ لغرضٍ تعليمي فحسب، إلا أنه أثبت توافقاً مع نظيره في المراس الحي لتلك المدرسة. تم التأكد من هذا التوافق من خلال تحليل مقامي موسيقي علمي لوثائق صوتية، اعتمد إجراء البحث المقامي الأصغر و المتوسط. أظهرت نتائج التحليل أن النظام التنظيري الشفهي المتناقل من قبل المشائخ يمكن الإرتكان إليه، على عكس النظم التنظيرية المقترحة في كتب التنظير الموسيقي العربية في العصر الحديث وعلى هذا فإن تبني النظام التنظيري في مدرسة الإنشاد يشكل مصدراً مهما يمكنك الاستفادة منه على الصعيدين التعليمي و المراسي في نطاق التقليد الموسيقي العربي.

خواطر شخصيّة في الذائقة النغميّة: في تعبير الأنغام و في التطريب 2

أمّا أذا أردنا بعض التصنيف من خلال الحالين التين أسلفت ذكرهما، فهناك من يقول أنّ التقاليد الفصحى أميل لعدم ارتفاع الصوت، والتقاليد الشعبيّة أميل لارتفاع الصوت، والتقاليد الدينيّة والدارجة فيها من الحالين. على أنّي شخصيّاً أميل إلى عدم فصل التقاليد النغميّة الدينيّة، فتوجّهي فيها أنّها كسائر الأحوال، منها ما يندرج تحت النغم الفصيح، ومنها ما يندرج تحت الدارج ومنها ما يندرج تحت الشعبيّ، وللتمثيل على هذا:
لو أخذنا التواشيح، كتوشيح أضاء النور مثلاً، والمغنّى من الكثير من المنشدين أمثال الشيخ علي محمود ومحمّد الفيّومي وغيرهما الكثير، بالسمع والتحليل نعلم أنّ ملحّن هذا الكلام ينتمي للنغم العربيّ الفصيح، ولو أخذنا لحناً كلحن الثلاثيّة المقدّسة، والتي سجّلته السيّدة أمّ كلثوم حوالي عام 1972، ولحّنه الأستاذ رياض السنباطي، نجد أنّه يتبع نفس طريقة الموسيقى الدارجة في الستّينات والسبعينات.
أمّا لو أخذنا ما يغنّيه الشيخ الدريني مثلاً، فإنّه يشبه في لحنه ألحان الموسيقى الشعبيّة في صعيد مصر.
فلماذا يصنّف البعض الموسيقى الدينيّة كتقليدٍ نغميٍّ مستقلّ؟

خواطر شخصيّة في الذائقة النغميّة: في تعبير الأنغام و في التطريب 1

سيسألني البعض، لماذا جئت بأسماء من الموسيقى الفصحى الأوربّيّة دون غيرها وقلتَ أنّك تطرب لهذه الأسماء؟
أُجيب: أمّا عن اختياري التقليد النغميّ الأوربيّ الفصيح، فسببه اشتهاره بين الناس أنّه الأكثر تعبيراً والأقلّ تطريباً، وأمّا عن اختياري للأسماء، فببساطة هي ما أتت
على رأسي، قد أكون سمعت بعضها حديثاً فكانت الأسبق للقفز إلى لوحة المفاتيح!
ما علينا، حاصلُهُ، أنّي وجدتُ أكثر الأنغام المعبّرة عن شعور الإنسان في المطلق، هي التقاليد الفُصحى، و وجدت أكثر التقاليد قرباً من التعبير الحسّي المباشر عن أحوال الإنسان من فرحٍ وترحٍ وعملٍ وانتصارٍ وانكسار، هي التقاليد الأكثر نصيباً من الازدراء لدى حضرات النقّاد الموقّرين، أعني التقاليد الشعبيّة للريف والبادية وسكّان المدن من العمّال. لماذا لم يختر نقّادنا الأفاضل إحدى هذه الألحان للتمثيل على التعبير، و يتحفوننا دوماً بما هو مستورَدٍ كتمثيلٍ عن التعبير؟
و سؤالٌ مهمّ: ما الفرق بين الحالة التي يصل لها المستمع من التعبير عن تلك التي يصلها من التطريب؟ اعذروا جهلي!
وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإنّني لم أعهد في حياتي سوى حالين، خَبَرتُهما عند الناس قبل قراءتي عنهما في علم نفس الصوت،psychoacoustic هذان الحالتان هما نشوةٌ هادئة، وهي التي يصل لها الإنسان حين يسمع صوتاً يطرَب له يكون الصوت فيه منخفضاً أو متوسّط العلوّ، لا أعني الطبقة، لكن أعني علوّ الصوت نفسه، فهذه النشوة يصل لها بالشعور والإدراك والفهم المباشر لما يسمع. والحال الثانية هي النشوة العصبيّة، وهي تأتي عبر صوتٍ متكرّرٍ ومرتفعٌ يؤثّر تأثيراً مباشراً على حاسّة السمع ومن ثمّ على الجهاز العصبيّ، فالضغط على طبلة الأذن، ومن ثمّ على باقي الجهاز السمعيّ، الناتج عن ارتفاع الصوت، يؤثّر على الجهاز العصبيّ، عند بعض الخبراء في مجال علم نفس الصوت، بشكلٍ أشبه بالتخدير.
على أنّي لم أعاين شخصاً، ولم أقرأ عِلماً عن فارقٍ حسّيٍّ بين حال التطريب وحال التعبير.
نواصل الاسبواع القادم ..

خواطر شخصيّة، في الذائقة النغميّة‎: في التطريب و التعبير

وعلى ذكر التعليم المدرسيّ، خطر في بالي ما درسته في الجامعة في النقد الأدبيّ عن فكرة الصنعة والتعبير، و أنّ جماعة الكلاسيكيّين الجدد كانوا يهتمّون بالصنعة على حساب التعبير، و أنّ جماعة الرومانطيقيّين اهتمّوا بالتعبير أوّلاً، و قالت لي سيّدتي رضوى عاشور في نقاشٍ بيننا ردّاً على قولٍ لي أرفض فيه هذه التقسيمة، أنّ النقد الغربيّ قد تراجع في الآونة الأخيرة عن هذه الأفكار، و أنّهم الآن يعيدون قراءة هذه الأعمال و هذا التاريخ بشكلٍ عام. فاستنتجت أنا أنّ جامعاتنا تنهج منهج الملكيّ أكثر من الملك! كالعادة.
وقرأت أيضاً لناقدٍ أدبيٍّ أنّ جماعة هُبَل، إذا أخذنا أنّ هبل هي تعريب أبولو، المهمّ، جماعة أبولو من وجهة نظره، انتفضت على جماعة الكلاسيكيّين الجدد وانتفضت على الشكل التقليديّ للشعر العربيّ واهتمّت بالتعبير أكثر من الصنعة. لكنّي أعلم أنّ القوم قد جعلوا رئيسهم الشرفيّ أحمد شوقي، فكيف انتفضوا و وضعوا رئيسهم بإرادتهم من الجماعة التي انتفضوا عليها!
"لا أظنّهم قد عصروا "لمونة ولا فوّضوا عالناشف!!!
أمّا في النغم، فسبب ما نحن فيه من حالة تقديسٍ لبعض الموسيقيّين الذين عاشوا في منتصف القرن العشرين، فهم جماعة النقّاد المدرسيّين أنفسهم، هم الذين استوردوا من النقد الغربيّ فكرة التطريب
والتعبير.وفرضوها حتّى أنّ الرافض لها في نظرهم جاهل.
تعالوا بنا نعاين فكرة التطريب والتعبير:
قرأت في كتابٍ أنّه في أوبريت العشرة الطيّبة (إلّا همّ: ليه استعملوا "أوبريت" و ليس "صورةً غنائيّةً" مثلاً؟ أو مسرحيّةً غنائيّة!!! عموماً!!!) في أوبريت العشرة الطيّبة، خرج سيّد درويش لأوّل مرّةٍ عن النسق التطريبيّ بالتعبير باللحن عن الكلمة، عشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي، فالتعبير هنا جاء بحركة الأربيجيو صاعداً في نعلا ونعلا ونعلا، ثمّ هابطاً في نطاطي نطاطي نطاطي. هذا صحيح، لكن الغريب أن يُصبح هذا مثلاً عند سائر نقّاد الجمهوريّات العسكريّة دون تدقيق، ظنّي أنّ حضرة الناقد الأوّل قد أعجبه هذا المثل لأنّه قد حمل نزعةً أوربيّةً في التعبير بالنغمة عن الحال. فحتّى لو كان من المتعصّبين للشيخ سيّد درويش، كان ينبغي له أن يدقّق ويعلم أنّ هذا اللحن ليس أوّل ما استخدم الشيخ سيّد هذه الطريقة في التعبير المباشر باللحن عن الكلمة، فللشيخ سيّد ألحانٌ كثيرةٌ استعمل فيها نفس الأسلوب لكن بغير الأربيجياتو.
وأمّا في المطلق، فإنّ كتب الموسيقى تُبرز وجود التعبير المباشر بالنغمة عن الكلمة، أشار إلى هذا الأسلوب صاحب كتاب الأغاني، ومن المدوّنات القديمة مثلاً، نستطيع أن نترجم حالة السكر بالنغمة في ساري عسكر داير يسكر، التي دوّنها فيلوتو بالتدوين الأوربي في الجزء الثامن من كتاب وصف مصر. أمّا الأدوار و الموشّحات، و حتّى طقاطيق العوالم فبها ما بها أيضاً من ترجمةٍ مباشرةٍ بالنغمة لمضمون الكلام، فانظروا مثلاً في دور عهد الأخوّة، كيف تُترجم بالنغمة جملة "عيد البشاير والفرح"، أو "طالع سعودك جدّ بالنصر فوق الحدّ"، أليست هذه ترجمةٌ بالنغمة مباشرةً لمعنى الكلام يا متعلّمين يا بتوع المدارس؟
إذن يبدو أنّ الفصل بين التطريب والتعبير عند نقّاد الجمهوريّات العسكريّة هو مجرّد فصلٍ بين طريقة التعبير المنبنية على نغمنا وطريقة التعبير المستوردة من أنظمةٍ نغميّةٍ أُخرى.
شخصيّاً أنا أطرب من موسيقى باخ وموتسارت واسترافناتسكي وشونبرغ، وأجد في التطريب تعبيراً وفي التعبير طرباً.
لا يمكن أن يُطرب صاحب نغمةٍ دون تعبير، ولا يمكن أن يصل صاحب نغمةٍ للتعبير إلّا أن يصل مستمعه للطرب. الطرب والتعبير كلٌّ لا يتجزّأ
أبوس إيديكم ارحمونا!!!

خواطر شخصيّة، في الذائقة النغميّة‎: احتكار الذائقة

لمّا كان النغم كالكلام، ينقسم لألسنٍ ولغاتٍ ولهجات، منه الفصيح والدارج، الأصيل والهجين، المدروس والعفويّ، الصادق والمدّعي، تعدّدت ذائقة الناس فيه بتعدّد أذواقهم لسائر الفنون.
على أنّ الرغبة من بعض فئات المجتمع في أمّتنا من احتكار الذائقة، و احتقار مَن ارتأوا فيه شخصاً دون معرفتهم، رغبت هذه الفئات المُستعلِية في توجيه ذائقة الأمّة وتعليبها وتقديمها جاهزةً للناس كفعلهم بسائر مناحي الحياة من شؤون الحكم والتعليم والاقتصاد والطعام والشراب واللباس وحتّى الحبّ.
انقسمت هذه الفئات المستعلية إلى فئاتٍ تتحدّث عن هذا التعليب باسم الدين تارةً والوطنيّة تارةً و الثقافة تارة، و إنّي لأرى أنّ كلّ هذا تعدّد أوجهٍ رغبةٍ في الاستحواذ والسيطرة والاستقواء على الناس.
وبعدُ فإنّ الكلام بعد ما سبق لن يتعدّى الحديث عن الذائقة النغميّة، خلا ما يؤول به الكلام بالتمثيل و المقارنة مع حالٍ آخر من أحوال فنٍّ آخر أو منحىً آخر من مناحي الحياة.
وستكون الكتابة في خواطر، لا فصليّةً ولا بحثيّةً ولن يُستخدم فيها الأسلوب العلميّ المدرسيّ، لكن سيُعتبر فيها بالأمانة العلميّة و الاستدلال بالتوثيق ما استطعت لهذا سبيلا.

«مجموعة أصيل»: «التوحَّد» بالتجريب!

يقول الناشط المصري علاء عبد الفتّاح في مقال نشره من داخل سجنه إنّ «التوحد صورة بلاغيّة لحالنا». كلام دفع الموسيقي المصري مصطفى سعيد الذي تعرّف إلى علاء في السجن إلى تأليف موسيقى مستوحاة منه تحت عنوان «توحّد». بين توحّد علاء في سجنه، وتوحّد مصطفى في السجن الكبير، محاكاة لألم واحد يطوف الدول العربية. ألم التناقض بين غير المبالين بما تؤول إليه حال بلادهم، وآخرين مصابين بأمل التغيير وبالتوحّد، فقدوا القدرة على التواصل مع أبناء بلدهم، كما القدرة على الانصياع.

لكن «المنهج الضمني» كما يصفه عبد الفتاح الذي تعتمده الأنظمة الحاكمة عُرفاً، يجعل هؤلاء الأخيرين منبوذين ومعزولين، لا يَفهَمون من حولهم ولا يُفهِمون. ماذا تريد مجموعة «أصيل» للموسيقى العربيّة الفُصحى المعاصرة بعرضِها «توحّد» الذي تقدّمه اليوم في بيروت بالتنسيق مع «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية»؟ تلك المجموعة التي أسّسها مصطفى سعيد (عود) عام 2003 بنواة تخت شرقي تضمّ إلى جانبه عازف القانون اللبناني غسان سحاب (إشراف تنفيذي أيضاً)، وعازف الناي المصري محمد عنتر، قبل أن تتوسّع لتضم اليوم 12 موسيقياً. إلى جانب الأسماء المذكورة، تتألف الفرقة من خليل البابا (كمان صغير ــ فيولينا)، وعبد الرضا قبيسي (طنبور بغدادي وطنبور اسطنبولي)، وعلي الحوت (رقّ ــ إيقاع)، وجوس تورنبُل (دُمبَك ودهُلّة ــ إيقاع)، وبلال بيطار (سنطور)، وفرح قدّور (عود صغير)، وأنطون حوّاط (كمان كبير)، ورضا بيطار (كمان وسط)، وفراس عنداري (عود كبير). بعد ألبومَي «رباعيّات الخيّام» (ترجمة أحمد الصافي النجفي ــ 2008)، و«أصيل» في 2009، وحفلات عدّة أهمّها وآخرها «البُردة» في 2014 (شعر تميم البرغوثي)، تقدّم «أصيل» الليلة «توحّد». إنّه عمل يضم قوالب موسيقية تقليدية منها «الدولاب» و«التّقاسيم». هو تجريب موسيقي لا يكتفي بما كانت الفرقة تقدّمه سابقاً من تجديد من الداخل وتطوير لقوالب موسيقيّة أصيلة. هل هو تجريب شرقي؟ لا. فالتجريب الموسيقي الذي نشهده منذ منتصف القرن العشرين يعتمد أساساً على نقل أصوات الحياة، والصناعة، والتكنولوجيا إلى المسرح. ليس هذا تجريب «أصيل»، لأنّها تذهب بالمغامرة إلى أقصاها وأقساها. تنقل تلك الأصوات أيضاً، لكنّها تحملها بعنف شديد، وتُسقطها من علوٍّ مرتفع قاتل في وسط الجمل النغميّة. إسقاط يحاكي القصف الممنهج والعشوائي اليوم في بلادنا. تُشعرنا الفرقة بأنّ تجريبها مكتوب علينا، كأنّه واقعنا، فتعطي الآلات أصواتاً متفلّتة أحياناً، وغير متزامنة أحياناً أخرى، وفجأةً يعمّ ذاك الانسجام التّام، بعيداً من الانصهار الموسيقيّ. هكذا نحن اليوم. نتخبّط ما بين أصيل وهجينٍ، نريد ولا نريد، نجرّب كثيراً ونعمل قليلاً. ومنّا أكثريّة صامتة مخيفة، وأخرى مغامرة عابثة، وقلّة كـ «أصيل» ما زالت تجرّب، لكنّها تُشعِرنا بأنّها تعلم ماذا تفعل.
يسأل علاء عبد الفتاح في مقاله: «ما الأسهل؟» التّماشي مع الظّلم وتدريب «المتوحّدين» على قبوله، أم إقناع المجتمع باستحالة الحياة معه؟ هنا، نتساءل مع «أصيل»: ما هو دور الموسيقى في وجودنا المهدَّد؟ هل يسهم موسيقيّونا في تهديد وجودنا أم في إنقاذنا، عبر توجّهاتهم الانتاجيّة وعبر مصادر تمويلهم وعبر خضوعهم أو تمرّدهم على العرض والطلب في أسواق الموسيقى العالميّة؟ يبدو أنّ «أصيل» اختارت البقاء والرّفض ونهل الجديد من التاريخ الثقافي والحضاري. اختارت مغامرة معالجة التوحّد والأمل بالتواصل والتمرّد. لقد اختارت الصعب. أما الوقت الّذي أنضج تجربة «أصيل» فهو نفسه الذي سيُفهمنا قيمة هذه التجربة/ المغامرة.

أريج أبو حرب

نشر في الأخبار

كتاب الى القصبجي من مصطفى سعيد

شهادةٌ وخطابٌ واعترافٌ بجميلٍ ردّه محال:

قد لا يروق ما أكتبه لقارئٍ يحبّ الكتابة الرصينة المستندة دوماً لقواعد علميّةٍ وصياغةٍ حياديّة، فما سأكتبه غير حياديّ، فمن أكتب عنه هو أحد أساتذتي في عزف العود، وفي شيءٍ آخر، جُرأة التجربة.

إذا سمعته، تسمع فيه صداً لروح الحاجّ سيّد السويسي، وغيره ممّن كُتِب عنهم ولم يسجّلوا، كأحمد الليثي، ريشةٌ صعودها لا يختلف في الصوت عن هبوطها، تتحرّك بالإبهام والسبّابة، قريبةٌ للوتر، يمكن من سماع الناتج العزفيّ بسهولةٍ معرفة أنّ الريشة ليست ليّنة، وأنّ إبهام وسبّابة يده اليمنى هما الليّنان. من رشاقة يده اليسرى تستطيع أن تميّز مدى قرب إصبعه من الوتر، ومن قرب صوت الوتر المعفوق من الوتر المطلق، تستطيع أن تتأكّد أنّ الضغط على الوتر يتمّ بمقدّمة الأصبع. تستطيع بسهولةٍ أيضاً أن ترى مدى التوافق العضليّ بين يمناه ويسراه حين يعفق بإصبعه على وتر العشيران مستحضراً نغمة الراست أثناء عزفه جوابها، أي الكردان، بالريشة، كما تستطيع فهم مدى طواعية الآلة في يده وتلبيتها فكره من سرعة الريشة وتلبية يده اليسرى لهذه السرعة مع تقنيّات الكتم وطريقة الريشة المستمرّة والأوضاع على رقبة العود وحتّى الدخول بيده اليسرى داخل الصندوق إلى ما بعد الرقبة.

يا سلام! ماذا وراء هذه التقنيّات، هو عازفٌ مميّز، لا شكّ! لكنّه موسيقيٌّ مجرّب، يندر أن يجود الزمان بمثله.

سُئل أحد كبار الملحّنين عن لحنٍ له: لماذا يشبه هذا اللحن القصبجي؟

أجاب: مَن منّا لم يُشبه القصبجي في مرحلةٍ ما؟ لقد كان القصبجي حالةً نغميّةً، لا ملحّناً فرداً.

ملحوظة: هذا الملحّن أشهر بكثيرٍ لدى عموم المستمعين من القصبجي، بل أنّه طعن عليه واستهزأ به في حضوره وغيابه، فقط، بدعوى أنّه الأشهر.

حسناً: سيّدي الأستاذ محمّد بن الشيخ علي القصبجي: يا تربية المشايخ وحلقات الذكر: يا ذا الخيال الخصب الفصيح الصِرف في التقسيم وصياغة الألحان: يا حالةً متجسّدَةً من صراع التطوّر الحضاريّ.

كنت تريد نقل الأوبرا لموسيقاك العربيّة، كنت تتحفّظ على من ينقلون الألحان، فكنت تريد أن تنقل الحالة لا النغم.

لا أعرف ماذا كان قولي وفعلي لو كنت في عصرك، لكنّي أخالفك الرأي، وأشاركك حبّ التجربة.

أريد مثلك لموسيقانا أن تتطوّر، لكنّي أريدها أن تتطوّر من نواتها.

لو كنتَ في عصري: هل كنت لتشاركني الرأي؟

أنت أستاذي في عزف العود وفي حبّ التجربة.

إلى اللقاء.

مصطفى سعيد