استعادة أنغام البحر

تراث النغم
مُصْطَفَى سَعِيد
عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في مجلة تُراث - أبو ظبي- العدد ٢٥٥ يناير ٢٠٢١.

أيّ حضارةٍ نَمَتْ بتراكم خبرات أجيالٍ سلَّم كلّ جيلٍ ما لديه لمن تلاه، فحفظ التالي عن السابق، وأخذه في طورٍ جديدٍ حسب اتّفاق حاجاته وزمنه ومحيطه. على أنّ بعض هذه الحاجات قد تسقط تماماً، فهل يسقط حكماً كلّ ما يتعلّق بها؟ لم تعد الخيل وسيلة نقل، فلماذا يُقبل البعض على تعلّم ركوب الخيل؟ بل ولماذا تحتفظ بعض الجيوش وأجهزة الشرطة حول العالم بمجموعةٍ من الخيّالة؟

لو أخذنا هذا للنغم: هل يغوص أحدٌ الآن طلباً للّؤلؤ؟ لماذا إذن تُغنَّى أنغام الغوص في أيّامنا هذه؟

هل الشعوب مازوخيّةٌ فتنقل أنغام معاناتها جيلاً بعد جيلٍ كموسيقى مدن القناة "قناة السويس" التي ما زالت تُغنَّى على السمسميّة إلى أيّامنا هذه؟ ألم تنتهِ السخرة؟

لنتخيّل غوّاصاً فقد أباه وأخاه في البحر، وعُمِّر هو حتّى أمسى الغوص من الماضي، فما زال ينقل الناجي غناء البحّارة لأبنائه، أليس الأجدر به أن ينساه فلا يتذكّر محنته كيف غرق أباه فأُلقي جسده في البحر، لم يُدفن ولم يعرف له أهله قبراً!

حُفِظ إرث غناء الغاصة إذن جيلاً بعد جيل، سُجِّلَ ووُثِّق وأصبحت جلسات السمر في الديوانيّات تزخر بما كان يغنّي أُناسٌ لم يعنِ لهم هذا النغم إلّا تذكّر الشقاء والفقر والموت.

انتَهى زمن الغوص، وبات إرثه الغنائيّ مجرّداً عن كلّ معانيه، والحقّ أنّ من هذا الإرث ما كان يُغنَّى أثناء صنع السفينة، وحين إنزالها البحر، وأثناء الرحلة لضبط إيقاع النواتيّة وفي الليل للسمر، وبعضها ارتبط به احتفالاً بالوصول أو لمناسبات الأفراح والأتراح، وقد نتناول هذا تفصيلاً في مقالاتٍ لاحقة.

حكى لي أحد الرفاق من الشارقة أنّ عائلتهم دأبت على الاجتماع كلّ فترةٍ والسمر بغناء النهمة، فنّ البحر والغوص، وأنّ جدّاً من هذه العائلة عمّر حتّى جاوز المائة، وهو ممّن أدرك زمن الغوص وكان يعمل في البحر مع الغوّاصين، أخبرني هذا الرفيق أنّه كان يستغرب ردّات فعله، فأحياناً، رغم ضعف جسمه لكبر سنّه، كان يقوم من مجلسه ويتحرّك طرباً، وفي بعض المواضع يكاد الدمع يخرج من عينيه. فكان تعليقي، والله أعلم بصحّته، أنّ هذا الغناء كان لمناسبات عديدة، وأنّ ما به من التنوّع في النغم والإيقاع من خفّةٍ وثقل، قد يكون ذا معنىً في زمانه، أي أنّ بعضه كان يغنّى أثناء أطوار العمل المختلفة، وبعضه في مناسبات الفرح وبعضه في المناسبات الحزينة.

إذن توقّف توريث الغوص بحثاً عن اللؤلؤ من جيلٍ إلى جيل، لكن لم يقف توريث الإرث الفنّيّ المتعلّق بهذه الصنعة، في رأيي لأنّ تبدّل الزمن يغيّر الصناعة ووسائل النقل، لكنّه لا يغيّر لأصحاب الأرواح الشفّافة مفهوم الجمال.

بالسماع، يُمكِن دون عناءٍ مقاربة فنّ النهمة بالغناء الكنسيّ النسطوريّ، والبيزنطيّ، بل يُسمع في بعض إيقاعاته مؤثّر طقوس التعبّد الجماعيّ الهندوسيّ والبوذيّ. وكم يذكّرنا صوت النهّام المنفرد بالمنشد في حلقات الذكر والموالد، وقد نتحدّث عن هذا أيضاً  في مقالاتٍ لاحقة.

حاصل الأمر أنّ هذه الفنون الطقسيّة الدينيّة دخلَتْ طوراً ودمجاً جديداً بسبب ازدهار الغوص للبحث عن اللؤلؤ، ثمّ انتهى عصر الغوص ولم يبقَ منه إلّا فنّه، فكيف يُفيد هذا الفنّ الأجيال القادمة؟

كلّما ابتعد زمن نهاية الصنعة، قلّ تذكار فنّها، والملاحظ أنّ الحنين لأغاني الغوص قلّ في زماننا هذا عن العقدَين السابقين، وبالمنطق الحاليّ، سيقلّ أكثر وأكثر حتّى يصبح مجرّد لوحةٍ في متحف، حبيسة الجدار الزجاجيّ يؤتى لزيارتها، أو دمجها بما لا يشبهها فتخرج كأنّها شيءُ تذكاريٌّ لا معنى له أكثر من هذا، كما حدث مع دمج النهمة بأنواع موسيقى إلكترونيّةٍ أو تكنو أو هِڤِي مِتَل، مثلاً.

والحقّ أنّ هذا النغم يتّسم بالحركيّة وقابليّة إعادة تشكيل نفسه حسب حاجة الزمن، شأنه في هذا كسائر أشكال النغم المقاميّ، لكنّ أمّتنا ما زالت قليلة الوعي بفكرة التجدّد من الداخل واستيعاب القديم لا إعادة تأهيله بمنطق القصّ واللصق. فكما شكَّل النغم التعبّديّ نفسه في هيئةٍ جديدةٍ حسب حاجة العصر بعد ازدهار الغوص، يستطيع نغم الغوص أن يتهيّأ في فكرةٍ لنغمٍ عامّيٍّ أو فصيحٍ تزدهر به أنغامنا بدلاً عن الاستيراد الذي صار في أمّتنا مرادفاً للتقدّم منذ أكثر من قرن.

هذا مثلٌ للاستفادة من الإرث والماضي بعيداً عن شعوبيّة التباكي على أطلاله دون فهم حقيقته واستيعابها في حاضرٍ يمكن أن يكون أكثر إشراقاً بعثاً لمستقبلٍ واعد.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad