الأمير الجريح.. إبراهيم بن المهدي

حكايات أهل النغم ودلالاتها من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
 مُصْطَفَى سَعِيد

عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في الموقع الإلكتروني لكيوبوست -أبو ظبي- ، سبتمبر٢٠٢٢

“أحسن الناس غناءً أحسنهم صوتاً، وإبراهيم بن المهدي أحسن الجن والإنس والوحش والطير صوتاً، وحسبك هذا”.

الأغاني المجلد الثاني ص884.

هذا كلام مخارق عن إبراهيم بن المهدي؛ ومخارق أشهر مغني زمانه وأعلم أهل النغم بعد إسحاق الموصلي، على قول أبي الفرج. هذه شهادته عن إبراهيم بن المهدي لأخص أصدقائه، والإنسان بين خاصته ليس يحتاج إلى المجاملة حاجته إليها في المجالس العامة.

نحن أمام شخصية جدّ مركَّبة؛ إثبات عملي لتركيبة الإنسان ودليل على أن نشأة الشخص وتعليمه وخلقه ليست فقط ما يؤثر في سلوكه، إنما ثمَّ ما يؤثر خارج كل هذا مما ليس بيد الإنسان.

هذا إبراهيم بن المهدي، سليل الخلفاء، فاتته الخلافة لنسب أمِّه؛ فلم يُسمح لأبناء الأمهات من غير العرب في زمانه أن يتولوا الخلافة. لكن لم تكن حاله كحال مسلمة بن عبدالملك من قبله؛ بل إنه رأى في حياته تغيُّر القاعدة بعد المعتصم.

 

كتاب-الأغاني-طبعة-دار-صادر

 

طموحه للرئاسة جعله ينقلب على ابن أخيه المأمون؛ كان المأمون قبل هذا انتصر على أخيه الأمين، فلم يعجزه الانتصار عليه بجهد أقل بكثير.

كان يحب الغناء وبرع فيه؛ لكن كان يأنف منه ويخفي هذا وراء تهكمه على المغنين أنه يغنِّي تلذذاً ويغنُّون هم تكسُّباً.

ولنقرأ إجمال أبي الفرج هذا المعنى في المجلد الثاني ص851:

“صنعة أولاد الخلفاء الذكور منهم والإناث: فأولهم وأتقنهم صنعةً وأشهرهم ذكراً في الغناء إبراهيم بن المهدي، فإنه كان يتحقَّق به تحقُّقاً شديداً، ويبتذل نفسه ولا يستتر منه ولا يحاشي أحداً. وكان في أول أمره لا يفعل ذلك إلا من وراء ستر وعلى حال تصوُّنٍ عنه وترفُّع، إلا أن يدعوه إليه الرشيد في خلوةٍ والأمين بعده. فلمَّا أمّنه المأمون، تهتّك بالغناء وشرب النبيذ بحضرته والخروج من عنده ثملاً مع المغنين خوفاً منه (أي المأمون) وإظهاراً له أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وهتك ستره فيها حتى صار لا يصلح لها.

وكان إبراهيم مع علمه وطبعه مقصراً عن أداء الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته؛ فكان يحذف نغم الأغاني كثيرة العمل حذفاً شديداً، ويخففها على قدر ما يصلح له ويفي بأدائه. فإذا عِيب ذلك عليه قال: أنا ملكٌ وابن ملك، أغنِّي كما أشتهي وعلى ما ألتذّ. فهو أول مَن أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقاً إلى الجسارة على تغييره”.


وها هو أبو الفرج يورد صراحةً أنفة إبراهيم بن المهدي من الغناء:

المجلّد الثاني، ص870:

“أخبرني عمّي، رحمه الله، قال حدّثني علي بن محمد بن بكر عن جدّه حمدون بن إسماعيل، قال: قال لي إبراهيم بن المهدي:

لولا أنّي أرفع نفسي عن هذه الصناعة (يقصد الغناء) لأظهرت فيها ما يعلم الناس معه أنّهم لم يروا قبلي مثلي”.

أغلب الظن أن ما يسميه هو ترفعاً لم يكن إلا بسبب ما حدث له بعد عفو المأمون عنه، فإنه، وإن احتفظ بكونه أميراً لقباً ظاهراً، أُحبط بسبب ذهاب أي أمل له في الرئاسة والخلافة أدراج الريح. بل، وأصبحت للمأمون عليه منّةٌ بعفوه عنه، فقبله المأمون في ندمائه، وكان المأمون يعطيه الجوائز حين يستحسن غناءه دليلاً على صدق عفوه ورضاه عنه، فظنّ إبراهيم بن المهدي تشاؤماً أن المأمون يقصد إهانته بهذه العطايا. وقد بلغ من التشاؤم حداً اعتقد أن اسم إبراهيم أشأم الأسماء ليبرر ما يراه شؤماً لحياته في حكاية طويلة ليس هنا موضعها.

رغم كل هذا التشاؤم، كان إبراهيم بن المهدي من أكمل الناس أدباً وعطفاً على مَن حوله، وكان يشهد له بهذا الفضل حتى مَن كان يخاصمهم ويعاديهم دون ظاهر سبب.

المجلد الثاني ص852:

“وكان رجلاً عاقلاً فهماً ديّناً أديباً شاعراً راويةً للشعر وأيام العرب خطيباً فصيحاً حسن العارضة.

وكان إسحاق الموصلي يقول: ما ولد العباس بن عبدالمطلب، بعد عبدالله بن العباس، رجلاً أفضل من إبراهيم بن المهدي. فقيل له: مع ما تبذّل له من الغناء فقال: وهل تم فضله إلا بذاك؟!”.

هذا وقد عُرف عنه منازعته لإسحق بن إبراهيم الموصلي ودوام استعدائه دون سببٍ حتى ظُنَّ فيه أنه بعد فواته الرئاسة بالخلافة طلب الرئاسة في الغناء.

المجلّد الثاني ص870:

“كان إبراهيم بن المهدي ينازع إسحاق الموصلي ويجادله، وجرت بينهما مناظرات في الغناء، وكان حسن صوته يستر عوار ذلك كله. وكان الناس يقولون لم يُر في جاهليةٍ ولا إسلامٍ أخٌ وأختٌ أحسن غناءً من إبراهيم المهديّ وأخته عليّة. وكان يماظ إسحاق ويجادله فلا يقوم له ولا يفي به ولا يزال إسحاق يغلبه ويغصّه بريقه ويغصّ منه بما يظهر عليه من السقطات ويبيِّنه من خطئه في وقته وعجزه من معرفة الخطأ الغامض إذا مر به وقصوره من أداء الغناء القديم فيفضحه بذلك”.

من أحد هذه المواقف ما أورد أبو الفرج في المجلد الثاني، ص13:

“أخبرني يحيى بن علي، قال: حدّثنا أحمد بن القاسم الهاشمي عن إسحاق. وأخبرني الحسين بن يحيى، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشراً عن يمينه وعشراً عن يساره ومعهن العيدان يضربن بها، فلمّا دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأً فأنكرته. فقال المأمون: يا إسحاق أتسمع خطأً؟ فقلت: نعم والله يا أمير المؤمنين. فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأً؟ فقال: لا. فأعاد عليَّ السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين وإنه لفي الجانب الأيسر. فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى، ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ! فقلت: يا أمير المؤمنين: مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن. فأمرهن فأمسكن. فقُلت لإبراهيم: هل تسمع خطأً؟ فتسمع، ثم قال: ما ها هنا خطأ. فقُلت: يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة. فأمسكن وضربت الثامنة فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ! فقال عند ذلك لإبراهيم: يا إبراهيم لا تمارِ إسحاق بعدها فإنّ رجلاً فهم الخطأ بين ثمانين وتراً وعشرين حلقاً لجديرٌ ألّا تماريه. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين.

وقال الحسين بن يحيى في خبره: وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية. وقال فيه: فطرب أمير المؤمنين المأمون، وقال: لله درك يا أبا محمد، فكنّاني يومئذ”.

ولعل هذه العقدة من نسب أُمِّه وفوات الخلافة منه هي سبب مظلوميته، ولعل انقضاء مسألة النسب في الجيل اللاحق عليه سبب كل ما ورد عن هارون الواثق أو ابن المعتز في علاقتهما وسائر خلفاء بني العباس مع الغناء، فهي علاقةٌ غير ملتبسةٍ كما مع إبراهيم بن المهدي.

أخيراً: لم يكن إبراهيم بن المهدي قليل الإنصاف؛ فها هو في موقف يشهد أمام ابن أخيه حين غنَّى صوتاً لمعبد أنه لم يأتِ بنصف ما أتى به معبد، وها هو رغم ظاهر معاداته لإسحاق فيظهر أيضاً للناس فضله ويعينه ويساعده في مرضه. فالحاصل أنه ليس بالضرورة أن يكون لبسٌ في أمرٍ ما راجعاً له، بل قد يكون مرجعه شيئاً من النشأة أو حتى ما قبل النشأة من أي مسبِّبٍ خلقه الإنسان ليميز به عرقاً عن عرقٍ أو انتماء عن انتماء. فليت قصة هذا الأمير الجريح تكون عبرةً للناس بأن عدم المساواة قد تجرح مَن في قمة الهرم الاجتماعي كما تجرح أي إنسانٍ في كل زمان ومكان.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad