بعد هزيمة 1967 شاعت ظاهرةٌ إعادة الغناء "القديم" بمنطق فرقة الموسيقى الإذاعيّة وقتها. والقديم هنا يشمل فصيحَه ودارجَه وأنماطه الشعبيّة الريفيّة والمدنيّة المختلفة، دون تفريقٍ أو تصنيف. وهو أمرٌ مفهومٌ وغير مفاجئٍ، أقلّه في مصر آنذاك.
المفاجئ أنّ هذا الطرح لم يلقَ قبولاً من الناس، حتّى وإن خرج من أشهر الأصوات وأقربهم للجمهور. والأغرب أنّ شيئًا من التمرّد عليه تجلى في غناءٍ بأسلوبٍ أقلّ تأثّراً بالموسيقى الشائعة (المعتمدة على استيراد تطوّرها من الموسيقى الغربيّة)، فها هو الأستاذ أحمد عدويّة يتهكّم في أوّل أسطوانةٍ له على أشهر مغنّي عصره، ويتجرّأ على أشهر ثلاث أغانٍ له: "بتلوموني ليه، نار يا حبيبي، أسمر يا أسمراني" ويبدأ أغنيته بحبٍّ جمع بنت الأمير بالشابّ الفقير، تلميحًا لطبقيّةٍ يُفترض أنّ عصرها انتهى. بل يهزأ صراحةً بما يسمّونه "جديد" في قوله: ياللّي الجديد ولّفَك وجِه (جاء) القديم ذَلَّكْ (أذلك). يعني أنّه أتى بشكلٍ غنائيٍّ أقرب للقديم منه لهذا الجديد ، فأذلّ بقديمه الجديدَ الذي يستعلي على القديم.
يستعلي! نعم؛ ألم يغنّ الأستاذ عبد الحليم حافظ قبل إصدار الأستاذ عدويّة بأقل من عقدٍ ونصف: "وبأغنّي قديم وأنا إيه ذنبي"؟ أيّ قديمٍ إذن قصد عبد الحليم السخريةَ منه؟ وأيّ جديدٍ تهكم عدويّة عليه؟
في مشهدٍ من فيلم "ليالي الحبّ" يظهر عبد الحليم في سيّارةٍ حاملاً عوده تحت تهديد رجل مسنّ يحبّ الغناء القديم، إن لم يغنِّ له "قديماً" فسيبلغ عنه الشرطة في مخالفة فعلها ويحبسه. لذا فهو لا يستطيع الرفض، فيغني قائلًا "يا سيدي أمرك" ثمّ يقلبها "أمرك يا سيدي" إشارةً لما كان يحدث من قلب كلام بعض مقاطع الدور أثناء المجاوبة بين المنشد والبطانة.
صورةٌ غنائية متقنة الصياغة كلاماً ولحناً، للشاعر الأستاذ فتحي قورة، والملحّن الأستاذ محمود الشريف. النغمة "دوگاه، بيّاتي، الضرب "واحدة سائرة"، ينقلب المقام والضرب حسب اللحن المستدعى من الغناء القديم، يبدَّل الضرب ويبقى المقام على حاله في استدعاء لحن موشّح "بالذي أسكر من عرف اللمى"، يبقى اللحن على حاله، نغمة "دوگاه بيّاتي نوروز" والضرب "رمل" أو ما يعرف بـ"الدارج".
ويشطّر الشاعر كلام لسان الدين بن الخطيب بين الفصيح والدارجة المصريّة: بالّذِي أَسْكَرَ مِنْ عَرْفِ اللَمَى/ كان في حاله جَتْلُهْ (جاءت له) بَلْوَى مِ السَما (من السماء). إلى آخره.
ثمّ يسأله "مبسوط يا سيدي"؟ ويعود لمذهب الأغنية "يا سيدي أمرك" ويباشر عزف اللازمة بالعود الذي بطل استخدامه -أو كاد- في فرقة هذا العصر، وهو ما يتكرّر بعد كلّ استحضارٍ للحنٍ "قديم" على قولهم.
اللحن الآخر المستحضر قصيدةٌ للشيخ عبد الله الشبراوي، اشتهر بغنائها أحد أشهر موسيقيّي زمانه: الشيخ أبو العلا محمّد 1878 1927 . يتغيّر المقام إلى السيگاه، ويبقى الضرب على حاله مع تبطيئه. يباشر الشاعر التشطير بين الفصيح والدارج، مع تغيير بعض الكلمات في الشطر الأوّل الفصيح هذه المرّة: وَحَقِّكَ أَنّْتَ المُنَى والطَلَب/ وَأَنتَ المُرادُ وَأَنتَ الأَرَب لتصبح (والله يجازِي الِّلي كان السبب). وَلِي فِيكَ يا هاجِرِي صَبْوةٌ/ تَحَيَّرَ في وَصْفِها كُلُّ صَبّْ. لتصبح: وَلِي فِيكَ يا والِدِي قِصّةٌ/ تُغَيِّرُ مَجْرَى حياةِ الطَرَب... كأنّ هذا النغم لكبار السنّ دون غيرهم!
المقطع الثالث المستحضر كلاما ولحنا لا يبعد أكثر من 1922 للشيخ يونس القاضي، وألحان محمّد القصبجي، والغناء للسيّدة منيرة المهديّة، كان الملحّن والمؤدّية حيّين يرزقان، ويفترض أنهما استُؤْذِنا في دمج عملهما في هذه الصورة الغنائيّة. تغيّر المقام إلى "الصبا" والضرب إلى الواحدة الكبيرة. والتشطير من دارجٍ إلى دارج: حبّك يا سيدي غطّى ع الكل/ ع الكلّ يا روحي. يجعل نهارك زيّ الفل/ والورد يا روحي. حبّك يا سيدي على راسي من فوق/ وحياة روحي.. خايف أقول "على قدّ الشوق" لا تطلّع روحي. وهو يستدعي اسم أغنيته من فيلمٍ "لحن الوفا" الذي سبق هذا الفيلم بشهور، لحن الأستاذ كمال الطويل.
الاستحضار الرابع كان لدور "في البعد ياما" للشيخ محمّد الدرويش، ولحن محمّد عثمان. تصريحٌ بفكرة القديم والجديد: "أنا قلبي عليك عليك قلبي/ وباغنّي قديم وانا إيه ذنبي..." غناء القديم إذن عقابٌ ومصير غير مرغوب فيه.
اللحن في مجمله لا تأثّر فيه بالموسيقى الغربيّة، على عكس أغلب الألحان التي غنّاها. المؤثّر الأورپّيّ قاصرٌ على نظام الفرقة المصاحبة، فرغم خلوّها من أيّ آلات الموضة "پيانو، جيتار" إلى آخره، إلّا أنّ نظام أدائها معتمدٌ على تثبيت الأداء الشبيه بالقراءة من الورقة في الأداء السمفونيّ.
من هنا ينطلق عدويّة في طرحه، فرغم وجود إحدى آلات الموضة في مجموعته "الأكورديون"، إلّا أنّ المجموعة في التنفيذ معتمدةً على التنويع والارتجال ووحي اللحظة والتفاعل.
ينطلق عدويّة من نغمة "العشّاق" العربيّ بحكاية بنت الأمير، ثمّ يبني كلّ مقطعٍ على اسم أو مدخل أغنيةٍ من أشهر أغاني عبد الحليم حافظ، لا يذكر إلّا الكلام، لا يلمّح من قريبٍ أو بعيدٍ للحن أيّ أغنيةٍ منها. يتعمّد اختيار الأغاني التي اعتُبِرَت تمرّداً على الغناء التقليديّ وأكثرها تأثّراً بالموسيقى الدارجة في أورپّا وأمريكا. ويستحضر الأسلوب "القديم" في الغناء الفصيح والشعبيّ الريفيّ والمدنيّ.
ما القديم الذي يستحضره عدويّة؟ ليس قديم عبد الحليم، بل قديمٌ آخر، يذكّرنا بمحمّد عوض العربي، محمّد الصغيّر، الحاجّ حسن صفر، الحاجّتين صبحة وزينب المنصوريّة، إلى آخر هذه الأسماء.
هل انتهى قديم عدويّة تماماً؟ أحسبه لم يتوقّف، فهو مستمرٌّ في أجيال معاصرةً للأستاذ عبد الحليم حافظ مثل الأساتذة عطيّة الإسكندراني ومحمّد الصغيّر وأبو العلا البرديسي، وغيرهم. ثمّ في جيل عدويّة نفسه، مع محمّد طه ومتقال قناوي وغيرهما كثر.
لم ينقطع الغناء الشعبيّ، لم ينقطع إنشاد السيرة الهلاليّة، أغلب الغناء الشعبيّ كان لا يزال مستمرّاً وقت صدور أسطوانة عدويّة الأولى، انحسر لكن لم ينقطع، ولعلّ هذا سبب تذكير عدويّة بهذا النمط الغنائيّ، أو لنقل الأنماط الغنائيّة الشعبيّة المنتشرة على ضفاف النيل في واديه ودلتاه.
قديم عبد الحليم به بعض التباس: هل توضع الموشّحات والأدوار والقصائد، في الخانة نفسها مع طقاطيق العشرينيات؟ الموشّحات والقصائد والأدوار لم تنقطع، استمرَّت في الإنشاد الدينيّ وذِكر الطرق الصوفيّة والإنشاد القبطيّ وسائر التقاليد الدينيّة، أمّا طقاطيق العشرينيات، فقد استُبدِلَ بها غناء أرقى من حيث الكلام ومختلف الصياغة من حيث النغم، هذه ما نستطيع بثقةٍ أن نقول: إنّها انقطعَتْ وانقرَضَتْ.
في أزمة التجدّد بعد وقوع الأمّة تحت استعمارٍ بعد استعمار، ظنّ أهل النغم أنّ الموروثٌ لا يمكن المساس به، قدّسوا أسماء مثل عبده الحامولي ومحمّد عثمان، فأصبح كلّ من رام التجديد يُقال له: ماذا تقدّم بعد سي عبده؟
فوجد من يريد التجديد مهرباً في الاستيراد.
ثمّة صدمةٌ حضاريّة، ورغبة في إرضاء ذوقٍ يكره الهويّة ويعتبرها تخلّفاً، يريد الإحلال والتبديل، وكأننا إذا أردنا الارتقاء فلا بدّ من محو التاريخ لنكون كالأمّة المتقدّمة شكلاً، حتّى نكون مثلهم موضوعاً!
انشغلوا بالمظهر ولم ينظروا إلى الجوهر الذي جعل منهم أُمّةً تقود ركب الحضارة والتقدّم، وتزعم أنّها ترتقي بسائر الأمم البدائيّة مثل أمّتنا.
أفلس النغم الفصيح إذن، واكتفى أهله أن يُقال عنهم "أهل النغم القديم" وكانت طقاطيق العشرينيات أكبر مثلٍ على شهادة وفاة تجدّد هذا النغم: ألحانٌ تُرضي شركات الأسطوانات، كلماتٌ ترضي طبقةً أثرَتْ من الحرب العالميّة الأولى، أداءٌ في أماكن أقرب للمقاهي منها للمسارح، لا سمع حقيقيّ فيها.
وجماعةٌ يريدون أُوبرا عربيّة، شرط سماعهم ممتاز: لا طعام ولا شراب أثناء السمع، لكن الدخول بالملابس الرسميّة "الأورپيّة"! والنغم المسموع في تمام النظام، الموسيقيّون أشبه بآلات تعزف على آلات، ينفذون فقط رغبة الملحّن، انتهى زمن التأويل والتفاعل بين المؤدّين، فهم يعتبرونه تخلّفًا! لأننا في زمن الموسيقى العربيّة الحديثة: لا ارتجال، لا تنويع، النظام سيّد الموقف!
تأتي المفاجأة! في أمسيةٍ غنائيّة تخرج الآنسة أمّ كلثوم مرتجلةً عن النصّ الموسيقيّ، ويعنّ للأستاذ محمّد عبد الوهّاب الخروج عن لحنه فيرتجل، يغوص الموسيقيّون -الذين لم ينسوا نغمهم الفصيح بعد- معهما في التفاعل والارتجال، ترتفع أصوات الجمهور بالآهات والاستحسان ويعلنون رغبتهم في المزيد من هذا! الجمهور إذن بخير، غير صحيحٍ أنّ "الجمهور عاوز كدا"!
ليس الصراع صراع أجيال، بل صراع عقول. ضاع معنى التجدّد بين كلمة "قديم" و"جديد" ليس القديم قديماً، ولا الجديد جديداً. بعض الغناء العربيّ المتفرنج أقدم من محمّد عثمان وعبده الحامولي! فلماذا نُعت غناء الأدوار بـ"القديم" والفرانكوآراب بـ"الجديد"؟
إلى أن نفيق من جدليّة القديم والجديد، ونستوعب أنّ أشكال النغم أكبر من أن تُستوعب في هذه الثنائية، سيبقى كلّ عصرٍ يسخر ممّا قبله، وسيبقى مفهوم التجدّد مختلطًا مع القصّ واللصق.
الآن أصبح غناء عبد الحليم وعدويّة غناء قديماً، غير مرغوبٍ فيه! إذا استمرّ الوضع على حاله، بعد عقدين أو أقلّ، ستُذاع أغاني المهرجانات على إذاعات "أغاني زمان"، ولا خطأ في ذلك، هذا هو فهم نخب أمّتنا لمفهوم التجدّد والأصالة.
الأكيد أنّ يوماً سيأتي نمتصّ فيه الهزيمة والصدمة الحضاريّة، نفهم أنّ النغم أرحب من أن يُستَوعَب في عصور، وأنّ البُعد الحضاريّ والموروث أقرب لحقيقة التجدّد والتطوّر من اتّباع الصرعة والموضة، مع عدم الحجر على من اتّبع هذا السبيل أيضاً. تعدّد الأصوات وتنوّع السماع والإنتاج خيرٌ من تقسيم العصور والأجيال.