في الذاكرة مشاهد من مسلسلٍ "أم كلثوم" الذي أنتجه اتّحاد الإذاعة والتلفزيون بمصر. جسَّد فيها المُبدِع رشوان توفيق الدور المكتوب للشيخ أبو العلا محمد، أحد الشخصيَّات المؤثِّرة في مسيرة أمِّ كلثوم الغنائيّة، وهو يصوِّره شيخًا مُسِنًّا زاهدًا في الحياة، يتبنَّى هذه الفتاة الواعدة، التي يرى فيها أمله في إعادة الفنِّ إلى مساره الصحيح، بعد أن انطفأ نجمه؛ بسبب الهبوط الذي ساد عالم النغم بمصر، ويحكي -من ضمن ما يحكي- أنَّ الجمهور أنزله؛ لأنَّهم يريدون سماع عبد اللطيف البنَّا، الذي يغنّي الطقاطيق الخفيفة ذات الكلام غير اللائق.
حينها، في أواخر تسعينات القرن المنصرم، كنت قد استمعتُ إلى العديد من تسجيلات الشيخ أبو العلا، إمَّا عبر البرامج الإذاعيَّة، أو مباشرةً من جهاز الفونغراف القديم، والصوت فيه أقلُّ تشوُّشًا من الإذاعة.
سواء في هذه التسجيلات، أم تلك، لم يَبْدُ صوت الشيخ كبيرًا في السنِّ، بل بدا في بعض التسجيلات شابًّا، ولا يمكن أن يجاوز الكهولة في أحدثها. فبعقل طفل -حينئذ- فكَّرت لو أنَّ التسجيلات دخلت مصر في العقد الأوَّل من القرن العشرين، والشيخ أبو العلا رحل عام 1927: كيف شاخ الرجل في هذا الوقت ليصل للحالة التي جسَّدها المُبدع رشوان توفيق بأمانة واحتراف؟
يبدو صوته منكسرًا في بعض الأسطوانات، كأسطوانة "بيضافون" التي يغنِّي فيها "يا ربّ هيّئ لنا من أمرنا رَشَدَا"، لم أكن حينها أملك ما أملك الآن من بعض آليَّات بحث، ولم أكن اطّلعتُ على طرائق معرفة تواريخ التسجيلات، وكان هذا التسجيل تأكيدًا لفرضيَّة انطفاء نجمه، لكن ظلَّت مسألة شيخوخته -حينها- من دون حلٍّ مُقنِعٍ.
لن يخوض هذا المقال في تفاصيل حياة الشيخ أبو العلا الشخصيَّة، إنَّما نعرض من سيرته فقط ما يخصُّ فنَّه، وما أفاد الإنسانيَّة به، من نغمه وغنائه.
قيل إنّ الشيخ أبو العلا من مواليد قرية بني عُدَيّ، بمحافظة أسيوط من صعيد مصر، حوالي عام 1878، ويُقال هو حفيد الشيخ العدويّ شيخ الطريقة الشهير أيَّام الحركة العرابيّة، ويُقال إنّ نَسَبَه يتَّصل من ناحية أمِّه بالأمير "عبد الرحمن كتخُده" الشهير، صاحب الهمَّة في تشييد المباني، منتصف القرن الثاني عشر الهجريّ.
تحدَّثتْ كتب كثيرة عن نشأته وتعليمه، وعن دراسته وإتقانه قراءة القرآن، ثمَّ اشتغاله في بداية رحلته الفنِّيَّة قارئًا للقرآن، وقد ناقشتُ هذا مع الباحث العالم السيِّد فرِدريك لاکرونج، وخلاصة الأمر أنّ لحنَ الشيخ أبو العلا في اللغة يستبعد فرضيَّة كونه قارئًا للقرآن.
لا شكَّ عندي أنّه تلقَّى تعليمًا في اللغة، قد يكون أزهريًّا، فلقبه: أي "الشيخ" أبو العلا، لا شكَّ يعني أنَّه نال حظًّا من التعليم الدينيّ، ويمكن أنه بدأ حياته في النغم منشدًا للتواشيح، ومُبتهلًا، ويمكن أن يكون قد أحيا ليال كثيرةً في الحضرات وحلقات الذكر، أو فوق مآذن المساجد في رمضان، وسائر المناسبات الدينيَّة، لكن، لا يجب الخلط بين هذا وقراءة القرآن، ولا نقول إنَّه لم يقرأ بالمرَّة، لكن نقول إنَّه لم يكن قارئًا دارسًا لعلم القراءات من نحوٍ وصرفٍ، وتجويد،ٍ ومفاضَلةٍ بين القراءات، إلى آخر هذه العلوم اللازمة لدراسة القارئ المُتقِن.
لندع ما ورد في الكتب ونتابع الوثائق الرسميّة. تلقَّى الشيخ أبو العلا تعليمًا ابتدائيًّا في مكتبٍ بحيّ الحنفي (مسجدٌ ومدرسةٌ بحيِّ السيِّدة زينب بالقاهرة)، فيه تعلَّم القراءة والكتابة، وشيئًا من الحساب، وقواعد اللغة، وحفظ قدرًا من القرآن. هذه المعلومات تظهر في تعاقدٍ له -سنة 1321هـ- مع هيئة الأوقاف لإحياء ليالي رمضان بالإنشاد في جامع عمرو بن العاص، حديث الترميم آنذاك.
ثمّ إنَّه حُزِّم في النغم، وعُرِف بين طائفة الفقهاء المنشدين، ولكن، تقول المصادر الشفهيَّة إنَّ الشيخ أبو العلا -إلى جانب احترافه الإنشاد الدينيَّ في المساجد وحلقات الذكر- حفظ أدوار عبده الحامولي؛ إذ دأب على الذهاب إلى كل مكانٍ يغنِّي فيه "سي عبده"، وأنَّه حفظ أيضًا العديد من المُوَشَّحات من موسيقيِّي مصر وبلاد الشام. معنى ذلك أنَّه لازم عبده الحامولي في آخر مراحله، حين كان الشيخ أبو العلا نفسه مراهقًا.
لم يتعلَّم الشيخ أبو العلا عزف أيِّ آلة، على أنّه غنَّى مع التخت، قد يكون تلازُمًا، مع الإنشاد مع البطانة والابتهال دون آلات نغم.
اشتهر الشيخ أبو العلا بين السَّمِّيعة قبل أن يسجِّل، اشتُهِر في المجالين: الدينيِّ والدُّنْيَويِّ، لكن ظلَّ أكثر ما يُعرف به: القصائد.
الرأي عندي أنَّ الشيخ أبو العلا أتى القاهرة صبيًّا، أو لعلَّه أتى مع عائلته طفلًا، بل قد يكون وُلِد فيها، وإن انحدرت عائلته من بني عديّ، والرأي أنَّه كان على قدرٍ من الشهرة بين محبِّي النغم، وأنَّ القوم وجدوا فيه تجديدًا لعهد عبده الحامولي، الراحل حديثًا آنذاك، وأنَّهم رأوا في طلاوة صوته وهِمَّته في النغم والتلحين فرصةً لتجديد دم نغم الأمَّة بعد الخوف عليه من نزعة الاستيراد التي بدأت تتوغَّل على استحياءٍ آنذاك. قد يكون هذا ما جعل الشيخ السيِّد الصفتي (المطرب المشهور جدّا مطلع القرن العشرين) يسجِّل له إحدى قصائده، التي قد يكون سمعها منه ارتجالًا، أو عساه ثبَّت اللحن بعد إعجابه، وسيتَّضح هذا في حديثنا ببعض التفصيل عن تسجيلاته وأعماله.
ساهم الشيخ أبو العلا في اكتشاف وتوعية الكثير من المغنِّين وأهل النغم، حتَّى من غير المغنِّين، فمن غير أهل الغناء، يقول سامي الشوّا (عازف الكمان الشهير) إنَّ للشيخ أبو العلا فضلًا كبيرًا عليه، وإن لم يكبره كثيرًا، وكذلك يقول مصطفى "بك" رضا وكثير من عازفي تلك الفترة. أمَّا مِمَّن غنَّى فنذكر: أمَّ كلثوم، وفتحيَّة، ونادرة، وعبد الوهاب، والسنباطي، وصالح، وغيرهم الكثير.
رحل الشيخ أبو العلا يوم 5 يناير 1927 عن أقلَّ من 49 سنةٍ، أي في نفس عمر عبد الحليم حافظ!
في الحلقات المقبلة سوف نتحدث عن الشيخ أبو العلا وشركات التسجيل، ثم نفصل القول في صوته، الذي أعده من "أشجى مَن سمعت أُذُناي وأعذبهم" وأدائه وأعماله. فإلى لقاء.