كلّ نصٍّ موسيقيٍّ تراثيٍّ مهما بلغت دقّة نقله وكتابته يخضع دوماً للتأويل ووجهة النظر في التنفيذ، حتّى كبار المشهورين بجودة الكتابة مثل موتزارت، أو المشهورين بتشبّثهم تنفيذ الأعمال بدقّةٍ كما يتخيّلونها سماعاً في رؤوسهم مثل بتهوڤن، فنصوصهما دوماً تخضع رغم كلّ هذه الدقّة للتأويل في التنفيذ، فإذا سمع السامع أكثر من تسجيلٍ لعملٍ واحدٍ لهذين المؤلّفَين أو غيرهما، سيجد بسهولةٍ الفروق في تأويل النص المكتوب.
فإذا كان هذا حال مؤلّفين كهؤلاء، فما بالك بأعمال وُجِدَتْ في مخطوطات قبل هذا ببضعة قرون، حين كانت الموسيقى سُبَّةً على محترفها، بل سامعها في أورپا، حين كان الكتبة يدوّنون على ما توفّر لهم من أوراق وأحبار، حين كانت طرق التدوين بداءيّةً للغاية، رغم كلّ هذه الحواجز إلّا أنّنا نقف مدهوشين أمام الجهد الذي بُذِلَ لإعادة إحياء هذا النغم في القرون الوسطى في أورپا، عكفٌ لتحقيق المخطوطات بأساليب متعدّدة، إعادة تصنيع الآلات القديمة اعتماداً على القياسات وما تبقّى من لوحاتٍ أو بقايى تلك الآلات، وأخيراً من خيال أصحاب الفكر في تلك المشاريع، حتّى أضحَتْ موسيقى العصور الوسطى في أورپّا مُلهمَةً للعديد من المؤلِّفين المعاصرين حول العالم لإيجاد نغمٍ مُعاصِرٍ بعيداً عن النظام السلّمِيّ والأبعاد المُعدَّلة الناتجة عن عسكرة النغم إبّان الثورة الصناعيّة في أورپّا.
في فترةٍ أستعدّ فيها لتنفيذ مشروعٍ نغميٍّ من التراث العربيّ في زمن المخطوطات، رغم الإخفاق في الحصول على كلّ التمويل اللازم لهكذا عمل، استضافَت أبوظبي إحدى هذه الفرق المؤوِّلة للتراث الأوربيّ في العصر الوسيط من إسبانيا، وكانت المحاولة لتخيّل النغم الموجود حين كان البلاط العربيّ هو الأكثر جذباً لأهل النغم حتّى من غير العرب.
وكانت المجموعة التي عَزَفَتْ المخطوطات الأورپيّة عالية التجهيز، ليس من حيث الكفاءة النغميّة فحسب، بل من حيث المقطوعات وقراءة التاريخ النغميّ لمحاولة محاكاة الأسلوب، كلّ مشاركٍ عزفاً أو غناء قضى سنين للتدرّب على هذا الأسلوب، وهذه الآلات، وهذا النظام الموسيقيّ.
درستُ هذا النغم (أعني النغم الأورپيّ في القرون الوسطى) منذ قرابة عقدٍ ونصف، وأفدتُ كثيراً حينئذٍ كيف أبحث في كتب التاريخ والأدب بل حتّى في كتب الطبّ، عن أيّ معلومةٍ قد ترشدني لأمرٍ قد يغيب عنّي في أساليب النغم وأنواعها وطرق أداءها.
حتّى ما عُزِفَ وغُنِّي، أحفظ أغلبه، وسمعته بتأويلاتٍ عديدة، وأعجبني هذا التأويل الذي اتّضح فيه تماماً هذه اللمسة المحلّيّة الإسپانيّة من حيث القرب من أداء النغم عند العرب، بل وحتّى في شدّ الآلات والمسافات بين الأبعاد.
أمّا المجموعة العربيّة، فهم جماعةٌ من أكفأ الموسيقيّين الموجودين عزفاً وغناءاً ومراناً، شرفتُ بمعرفة بعضهم والعمل معهم لأكثر من عقدٍ من الزمن، لكن افتقد البرنامج العربيّ لقطعةٍ واحدةٍ يمكن أن ترجع فعلاً لأيّام غرناطة مثلاً، ولا أُرجع هذا لقلّة كفاءةٍ عندهم في النغم، إنّما لأسباب لها علاقةٌ بقراءة التاريخ والصبر في البحث وأسباب أُخرى تحتاج عشرات الصفحات شرحاً، حتّى النصّ الموسيقيّ الوحيد الذينصّه الأدبيّ للسان الدين بن الخطيب، على الرغم أنّنا لسنا أكيدين من مصدر اللحن، إلّا أنّ ما أُدِّيَ لم يكن النصّ الموسيقيّ الأصليّ الموجود المدوّن منذ قرون، بل النصّ المحرَّف عنه، ولن أقول المشوَّه، ولو سمع القوم التسجيلات الأقدم لوجدوا النصّ الموسيقيّ المشابه لمدوّنات الكتب القديمة مسجَّلاً، حتّى دون عناء إعادة قراءة المخطوطات والمصنّفات القديمة.
المجموعة الأورپّيّة ضبط آلاتها على الأبعاد النغميّة الطبيعيّة، المنسوبة للمدرسة الفيثاغرسيّة، وتحديداً يبدو أنّهم أفادوا كثيراً في القياسات التي وردت في رسائل بن باجة في قياس أبعاد الأنغام، أمّا المجموعة العربيّة، فقد ضبطَتْ آلاتها على قياس الأبعاد المُعدَّلة الذي ظَهَر في أورپا في حقبة الثورة الصناعيّة لتثبيت كلّ شيءٍ على أبعاد ثابتة.
ليت تأثّرنا بالغرب كان تأثّراً بالدأب في البحث والصبر واتّباع أيّ خيطٍ قد يوصلنا لنتائج في البحث، لا تأثّر التقليد والنسخ.
كانت الآلات التي بأيدي العازفين في الفرقة الإسپانيّة آلاتٍ تاريخيّة، مُعادٌ تصنيعها حسب القياسات والتخيّل، أمّا الآلات في أيدي الفرقة العربيّة فكانت حديثةً لا تمتّ بأيّ صلةٍ للآالات التاريخيّة، وكأنّ العرب أنفسهم من التاريخ لا حقّ لهم في التقدّم والمعاصرة إلّا بالتقليد والقصّ واللصق.
تاريخنا يستحقّ اهتماماً ودراسةً أكثر منّا لا من غيرنا، لماذا دوماً نُثبِتُ أنّنا أقلّ جدارةً في دراسة أيّ شيءٍ حتّى أنفسنا والحقّ أنّنا لسنا كذلك، تاريخنا به الكثير من الإشراق الذي يمكن إذا قرأناه ودرسناه أن يغدو طريقاً لتطوّرٍ ليس فقط في النغم، بل في كلّ مناحي الحياة.
أُمّتُنا تستحقّ أفضل من هذه الحال.
إشارة: تعمّد الكاتب إخفاء أيّ إشارةٍ تدلّ على الأمسية لأنّ القصد من الكتابة ليس الانتقاص من عمل أو كفاءة أيّ إنسان.