دون إطالةٍ في المقدمات، لنبدأ هذه الحكايات بقصتَين متقاربتَين زمنياً مطلع القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي.. القصتان وردتا في كتاب الأغاني؛ كيف يكشف لنا عن تصنيف الغناء في زمن دولة بني مروان؟ كيف يفرِّق أهل النغم بين غناء الفصحاء وغناء العامة؛ أي الموسيقى الكلاسيكية (الفصيحة) وتلك التي ترتبط بمناسبات أو حِرَف (العامية)؟
:نترك القارئ مع أبي الفرج وكتابه الأغاني وحديثه عن رحلة معبد إلى دمشق؛ إجابةً لطلب الوليد بن يزيد إشخاصه إليه
قال إسحاق (يعني إسحاق بن إبراهيم الموصلي): وقال معبد: أرسل إليَّ الوليد بن يزيد فأُشْخِصْتُ إليه. فبينما أنا يوماً في بعض حمامات الشام إذ دخل عليَّ رجلٌ له هيبة ومعه غلمانٌ له، فأطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب.
فاستدبرته حيث يراني ويسمع منِّي ثمّ ترنّمتُ فالتفت إليَّ، وقال للغلمان: قدّموا إليه جميع ما هاهنا؛ فصار جميع ما كان بين يدَيه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله، فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شيئاً إلا فعله، ثم وضع النبيذ فجعلتُ لا آتي بحسنٍ إلا خرجتُ إلى ما هو أحسن منه؛ وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى منّي.. فلمَّا طالَ عليه أمري، قال: يا غلام شيخنا.
فأدخلوا عليه رجلاً يغنّي غناء العوام والسوقة، فغنّاه:
سلورٌ في القِدْر ويلي علوه جاء القِطّ أكله ويلي علوه
- السلور: السمك الجري بلغة أهل الشام
قال: فجعل صاحب المنزل يصفّق ويضرب برجله طرباً وسروراً. قال: ثم غنّاه:
وَتَرْمِينِي حَبِيبةُ بِالدُراقِنْ وَتَحْسَبُنِي حَبِيبةُ لا أَراها
لم يعترض معبد على عموم هذا النوع من النغم، إنما اعترض على وجوده في غير موضعه، واستغرب رجلاً ذا يسارٍ وهيبةٍ أن يقيم مجلس غناءٍ فلا يطرب للنغم الفصيح بل أكثر من هذا لم يفهمه واستلذّ النغم العامّيّ عليه، واستغرب أن يتحول مجلس السماع الذي يغلب عليه حال النشوة الهادئة بالطرب إلى صياحٍ وجَلَبةٍ قريبةٍ في زماننا لما يُعرف بالـ(ترانس) الناجم عن سماع الموجات القوية والصخب مثل تلك الناجمة عن مكبرات الصوت والأجهزة الإلكترونية والتكنو.
Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | Developed by: Mathew Osama