سكينة بنت الحسين.. أم أهل النغم (2)

حكايات أهل النغم ودلالاتها من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
 مُصْطَفَى سَعِيد

عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في الموقع الإلكتروني لكيوبوست -أبو ظبي- ، أغسطس٢٠٢٢

كان منزل السيّدة سكينة بنت الحسين قِبلةَ أهل الآداب، من داخل شبه الجزيرة العربيّة وخارجها؛ فهؤلاء خمسةٌ من فحول شعراء العرب، اجتمعوا في بيتها؛ طلباً لجائزتها، وعلماً بأنّ قولَها فيهم بمثابة شهادة إجادةٍ لهم، على أنّها في هذه الحكومة -الّتي نحن بصددها- خصّت حكمها -على الشعراء- بما رأتهُ تقديراً للمرأة، ومكانتها في المجتمع، وتقديراً للحبّ بين الناس؛ حقّه من باطله… فلنذهبْ مع أبي الفرج، ونحضر هذا المجلس مع الحاضرين، في هذا البيت الشريف العامر:

المجلّد الرابع، ص57:

ينتهي السند عند جرير المدينيّ:

“اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليه السلام جرير والفرزدق وكُثَيِّر وجميل ونصيب فمكثوا أياماً، ثم أَذِنت لهم؛ فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم، ولا يرونها، وتسمع كلامهم، ثم أخرجتْ وصيفةً لها وضيئةً، وقد روت الأشعار والأحاديث، فقالت: أيّكم الفرزدق؟ فقال لها: هأنذا. فقالت: أنت القائل:

فلمّا استوتْ رجلاي بالأرض قالتا   أَحيٌّ يرجّى أم قتيلٌ نحاذره

فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا   وأقبلت في أعجاز ليلٍ أبادره

أبادر بوّابين قد وكّلا بنا   وأحمر من ساجٍ تبضُّ مسامره

قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرّها وسرّك؟ هلَّا سترتها، وسترتَ نفسك؟ خذْ هذه الألف والحق بأهلك.

 

كتاب-الأغاني-طبعة-دار-صادر


ثم دخلتْ على مولاتها، وخرجت؛ فقالت: أيّكم جرير؟ فقال لها: هأنذا. فقالت: أنت القائل:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا   حين الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغرّ كأنه   بردٌ تحدّر من متون غمام

لو كان عهدك كالّذي حدّثتنا   لوصلت ذاك فكان غير رمام

إنّي أواصل من أردتُ وصاله   بحبال لا صلف ولا لوّام

قال: نعم. قالت: أفلا أخذتَ بيدها، ورحبتَ بها، وقلت لها ما يُقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف. خذْ هذه الألف، والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها، وخرجت؛ فقالت:

أيّكم كثير فقال: هأنذا. فقالت: أنت القائل:

وأعجبني -يا عزّ- منك خلائقُ   كرامٌ إذا عدّ الخلائق أربع

دُنُوَّك حتّى يذكر الجاهل الصبا   ودفعك أسباب المنى حين يطمع

وقطعك أسباب الكريم ووصلك الـ – لئيم وخلّات المكارم ترفع

فوالله ما يدري كريمٌ مماطلٌ   أينساك إذ باعدت أم يتضرّع

قال: نعم. قالت: ملحت وشكلت. خذ هذه الثلاثة آلاف، والحق بأهلك.

ثم دخلت إلى مولاتها، وخرجت؛ فقالت: أيّكم نصيب؟ قال: هأنذا. قالت: أأنت القائل:

ولولا أن يقال صبا نصيب   لقلت بنفسي النشأ الصغار

بنفسي كلّ مهضومٍ حشاها   إذا ظلمت فليس لها انتصار

قال: نعم. قالت: ربّيتنا صغاراً، ومدحتنا كباراً. خذ هذه الأربعة آلاف والحق بأهلك.

ثم دخلت على مولاتها، وخرجت؛ فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام، وتقولُ لك: والله ما زالت مشتاقةً لرؤيتك منذ سمعتْ قولك:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً   بوادي القرى إنّي إذاً لسعيد

لكلّ حديثٍ بينهنّ بشاشةٌ   وكلّ قتيلٍ عندهنّ شهيد

جعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء؛ خذ هذه الأربعة آلاف دينار، والحق بأهلك”.


ترى مَنْ مِنْ أهل النغم حضر مجلس الأدب هذا؟ وهل كان مجلسَ أدبٍ فقط؟ أم تخلّله النغم، وربّما أحاديث في أخبار شعوب الأمّة الناشئة، ونوادرها وعمارتها وتوحّدها تحت رايةٍ واحدةٍ؛ راية السماحةٍ والصفاء بين شعوب الأمّة الناشئة “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْناسِ”، مجلس إذن به سائر ما قد يحويه مجلسُ أدبٍ في حضارةٍ إنسانيّةٍ ناشئةٍ، حينئذٍ ستثري العالم في القرون التالية -على هذا المجلس- بمصنّفاتٍ، ما زال أثرها سارٍ إلى زماننا هذا. فالناظر في كتب التراث؛ يرى أنّ هذه الأشعار المذكورة هنا قد لُحِّنَتْ من مشاهير أهل النغم في هذا العصر؛ من الرجال والنساء، فهل كان هذا صدفةً أم استيحاءً من هذا المجلس العامر بأهل الآداب والفنون؟

في حكومةٍ أُخرى، تَحَاكمَ أشهر اثنين من أهل النغم في ذاك الزمان، إلى السيّدة سكينة، ومَنْ أشرف منها حسباً، ونسباً، وعلماً، فيكون حكمُها وساماً على صدر من ينال شرفاً كهذا؟ لنسمعَ من أبي الفرج، ولنذهب معه في الخيال إلى أمّ القرى في موسم حجٍّ من أوّل قرنٍ هجريّ:

المجلّد الأوّل، ص303:

تحاكم الغريض وابن سريج إلى سكينة بنت الحسين فساوت بينهما، ينتهي السند عند جرير المدينيّ أيضاً:

“حجّت سكينة بنت الحسين؛ فدخل إليها ابن سريج، والغريض، وقد استعار ابن سريج حُلّةً لامرأة من قريش؛ فلبسها، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي، إني كنت صنعت صوتاً وحسّنته، وتنوّقت فيه، وخبّأته لكِ في حريرةٍ، في درجٍ مملوءٍ مسكاً فنازعنيه هذا الفاسق؛ يعني الغريض – فأردنا أن نتحاكمَ إليك فيه. فأيُّنا قدّمتِه فيه؛ تقدَّم. قالت: هاته فغنّاها:

عوجي علينا ربّة الهودج   إنّك إلّا تفعلي تحرجي

فقالت: هاته أنت يا غريض فغنّاها إياه، فقالت لابن سريج: أَعدْه؛ فأعاده وقالت: يا غريض أَعدْه؛ فأعاده، فقالت: ما أشبهكما إلا بالجيّدَين، الحار والبارد لا يدرى أيهما أطيب.

وقال إسحاق في خبره: “ما أشبهكما إلا باللؤلؤ، والياقوت في أعناق الجواري الحسان”.

هذان قطبا النغم في زمانهما يتمازحان، يعرف التلميذُ حقَّ أستاذه؛ فيغنّي أمام هذه السيّدة الشريفة لحن أستاذه دون أيّ ألحانه، هذا في موسم حجٍّ والحَكَمُ في الغناء أشرف بنت؛ سبط رسول الله، لم يأتِ من يزجرهم، أو يلوِّح بعصاه للفسقة، أو للمرأة أن تحتشم، فما أبعد الاحتشام المتطرّف عن زمانٍ كان أشرف الناس أنساباً وأكثرهم تديّناً أرعاهم للآداب والفنون، وأكثرهم لها تقديراً، عسانا نعود يوماً لجوهر هذا السلف الصالح، وننهل من قبسهم فنستنير بفيض أرواحهم الطاهرة.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | Developed by: Mathew Osama