والٍ قدم على أول عاصمة لدولة الإسلام، فوجد بها فساداً، فكما هي عادة الاستسهال في الفكر والسياسة، أشار عليه البعض أن سبب هذا انتشار السكر والفاحشة، ولم يفكِّر أحد في أن هذا نتيجة الفساد وليس سببه، وكالعادة أيضاً يذهب السماع، بسبب ارتباط أدناه بمثل هذه المجالس، ضحية هذا النوع من التفكير.
يأتي رجل دين ودولة فاضل، اشتهر بالورع والصلاح، وعُرف عنه العدل في القضاء في كل مكان ولي فيه القضاء، واشتهر عند المحدِّثين بصحة وعدالة روايته في الحديث، ذهب لهذا الوالي ليقنعه، فلم يجادله بالفقه والدين؛ لأنه يعلم، والوالي يعلم، أن المسألة ليست من مسائل الدين، إنما من مسائل السياسة؛ فهو يعلم صدق نيِّة الوالي في درء المفاسد، ومن ثمَّ جلب المنافع، علم ابن أبي عتيق أنه جانب الصواب في الوسيلة، فأقنعه، بالعمل دون الجدل، أن السمع والنغم يجلبان المنافع ويدرآن المفاسد إذا وُضِعا في صحيح مكانهما، وأنهما مقيمان للحضارة وصلاح الدين والدنيا. فها هي المغنِّية المثقفة العالمة أقنعته بحسن لفظها وروايتها أشعار وأيام العرب أن السماع والنغم لا يرتبطان ضرورةً بنتائج الفساد، بل إنهما مثل أي أمر من أمور الدين والدنيا؛ إذا وُضع في صلاحٍ صلح، وإذا وُضع في فسادٍ فسد.
ولننطلق من مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى العراق، الكوفة؛ حيث واحد من أقسى الولاة وأشدهم، تختلف فيه وجهات النظر بين المدح والقدح، والكلام هنا عن النغم والجمال، فنبتعد عن حكم المؤرخين على الأشخاص..
المجلد الأول ص295، ينتهي السند إلى ابن كناسة الكوفي:
“حرَّم خالد بن عبدالله القسري الغناء بالعراق في أيامه، ثمَّ أذن للناس يوماً في الدخول عليه -عامّةً- فدخل إليه حنين ومعه عودٌ تحت ثيابه، فقال: أصلح الله الأمير كانت لي صناعةٌ أعود بها على عيالي فحرَّمها الأمير، فأضر ذلك بي وبهم، فقال: وما صناعتك؟ فكشف عن عوده
وقال: هذا، فقال له خالد: غَنِّ! فحرَّك أوتاره وغنَّى: صوت
أيها الشامت المعيّر بالدر أأنت المبرّأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيّام بل أنت جاهلٌ مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من ذا عليه من أن يضام خفير؟
قال: فبكى خالد، وقال: قد أذنت لك وحدك خاصَّةً، فلا تجالسن سفيهاً ولا معربداً.
فكان إذا دُعي قال: أفيكم سفيهٌ أو معربد، فإذا قيل له: لا. دخل حنين”.