أغلب الشعوب التي تجد عندها نزعةً وطنيّةً زائدةً تتغنّى بماضيها الجميل وتستعيده دوماً للدفاع عن نفسها من أيّ كلمةٍ قد ترى فيها خطراً أو إهانةً أو مجرّد انتقاد. ليس هذا مصدر عجبٍ، إنّما العجب حين لا يحرّك هذا الشعب ساكناً إذا هُدِمَ له أثرٌ من هذا الماضي، الذي يقول عنه جميلاً، والأغرب أنّك تجد أكثرهم عصبيّةً لهذا الماضي، أكثرهم استعداداً لبيع أثرٍ أو مخطوط أو تحفةٍ منه. هل نقول أنّه كاذب؟ في رأيي أن لا، إنّما هو خلل في علاقة الموجود بالمفقود، وفهم الحاضر بمنطق فصل الأزمان.
شعوب أُخرى تجدها لا تتحدّث كثيراً عن الماضي، حديثهم عنه أقرب للحياد فتخالهم وكأنّهم لا يعنيهم في الحياة إلّا حاضرهم، فإن وجد أحدهم خطاباتٍ لأحد أجداده، أو حتّى لأبيه، جمعها وأقام بها متحفاً يُزار ويكون علماً للمدينة أو القرية.
هل هذا مُدَّعٍ؟ في رأيي أيضاً أن ليس هذا الفعل عن ادّعاء، إنّما عن طريقة فهمٍ أُخرى لعلاقة الموجود بالمفقود، عنده فهم الحاضر ليس بمنطق فصل الأزمان، إنّما بمنطق استمرار الأجيال، وأنّ الحضارة الإنسانيّة تراكم خبرات يُساعد فيها الحاضر، بوعي الماضي واستيعابه، في محاولة تكوين مستقبلٍ أكثر إشراقاً.
في البحث الأكاديميّ، يُدرَّس أنّ الباحث يجب أن يحاول البُعد قدر المستطاع عن التجربة الشخصيّة في بحثه، والمتشدّدون من الأكاديميّين يبالغون في هذا المعتقَد حتّى باتَتْ أغلب الأبحاث الأكاديميّة في العلوم الإنسانيّة حبيسة أرفف المكتبات قلّما يُؤثّر ما فيها من علمٍ في العمل، وكما يقول الفراهيدي: "اعْمَلْ بِعِلْمِي فَإنْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلا يُضْرِرْكَ تَقْصِيرِي"
ورأيي أنّ أيّ عملٍ بحثيٍّ إن لم ينبع عن تجربةٍ شخصيّةٍ فهو بعيدٌ روحيّاً عن الباحث فيه، فالابتعاد المادّيّ أوّله هجرٌ ثمّ شوقٌ لا يفنى بفناء المادّة، أمّا الا بتعاد الروحيّ فأوّله نفورٌ وأوسَطُهُ غِلٌّ وآخره فناءٌ محتوم. فالعلم والعمل متجانسان في اللفظ والمعنى، ليس هذا التجانس مصادفةً في اللغة إنّما غرض العلم إتقان العمل وتقدّمه من طورٍ إلى طورٍ فينمو ويزدهر، فكلّ عملٍ دون علمٍ تخبُّط، وكلّ علمٍ دون عملٍ لا يُعوَّل عليه.
هتان مقدّمتان لفكرةٍ ورأيٍ في علاقة الإرث واستحضاره في الحاضر محاولةً لتخيّل إمكانيّة مستقبلٍ، أرجوه أكثر ازدهاراً وإشراقاً، والحديث هنا عن النغم في أُمَّتِنا، راجياً أن أُوفَّق، بمتواضع ما قد أعرف، في إيصال هذه الفكرة الخياليّة التي انبَثَقَتْ عن تجربةٍ شخصيّةٍ لكاتب هذه الأسطر.
في مطلع العقد الثاني من حياتي، لاحظتُ انقسام المجتمع قسمَين: قِسْمٌ يرى ضرورة أن نحذو حذو السلف لأنّ مجانبة هذا الطريق سبب تخلّفنا وانهزامنا. فالإرث والماضي عندهم غايةٌ ومرشدٌ أوحد. والقِسْمُ الآخر يرى ضرورة نبذ الماضي ومشابهة الأكثر تقدّماً في العصر في كلّ قولٍ وفعل. هذا عندهم، هو سبيل اللحاق بركب الحضارة؛ فالإرث والماضي عندهم يعوق تقدّم الأُمّة.
قد يفهم بعض القرّاء الكرام أنّ هذه الجدليّة ذات بعدٍ دينيّ، وإن صحّ هذا، فإنّ هذا الفرض لم يكن يعنيني إطلاقاً في هذه المرحلة، وإن كنتُ ألحظه، فإنّما عايَنْتُه بمنظارٍ خارجيٍّ لم أدخل فيه إلّا بصفته منحىً من مناحي الحضارة عموماً. أمّا ما تعمَّقتُ معاينته من هذه الجدليّة، فالنغم، كما سيأتي.
لم تُتَحْ لي حينئذٍ إلّا بعض مصادر قليلةٍ لمراجعة تاريخ هذه الجدليّة، بعض أحاديث كانت تُذاع في ذكرى تأسيس الإذاعة في القاهرة آخر شهر مايو من كلّ عام، أو في ذكرى رحيل كاتب أو مفكّر، وبعض برامج في إذاعة البرنامج الثقافيّ والإذاعات الأجنبيّة الناطقة بالعربيّة التي سجَّلَتْ مع كُتّاب ومفكّري مطلع القرن العشرين.
خلاصة هذه الأحاديث أنّ تيّاراً ثالثاً وُجِدَ في زمنٍ غير بعيد، مفكّرون وعلماء عاملون وجدوا أنّ الماضي ليس صنماً يُعبَد، وأنّ تقليد الآخر ليس تقدّماً، إنّما، على قول طه حسين في إحدى حلقات حديث الأربعاء: ببغائيّة. أذكر إحالة عبّاس محمود العقّاد مستمعيه لمقدّمة بن خلدون، فبحثتُ ووجدتها وقرأتُ فيها مقولته الخالدة: "المغلوب مُولعٌ بتقليد الغالب، لأنّ الهزيمة توحي إليه أنّ مشابهة الغالب قوّةٌ يدفع بها مهانة الضعف الذي جَنَى عليه تلك الهزيمة".
كنتُ بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، ولم تزل آثار حرب الخليج قائمة، ما زال إخوتنا في العراق محاصرين بين طاغيتهم والغزاة، ما زلنا نهلّل لاتّفاقات السلام المستضعِفة للأمّة، ما زال من يدّعون المقاومة والدفاع عن القضيّة يغنّون أناشيد مُكرَّرة الأفكار كلاماً، مأخوذة الألحان والأفكار النغميّة ممّن يدّعون مقاومتهم.
مَنْ نكون؟ ما حضارتنا؟ ما دورها في الحضارة الإنسانيّة؟ ما نغمنا؟ هل مجاراة صرعات العصر في النغم تطوّر؟ هل التعصّب للماضي حلّ؟ أسئلةٌ طرحَتْها في نفسي القضايا التي ذكرتُ، أحاول الإجابة عليها.
وجدتُ أهل النغم وسمّيعته منقسمين لنفس الفريقين تظنّ كلّ فرقةٍ منهما أنّها الناجية. البعض يتعصّب للماضي، يخرج على قنوات التلفاز يسبّ كلّ جديد، ويمجّد في أُناسٌ نصّبَهم أصنامًا تُعبَدْ، أغلب التمجيد للأشخاص حتّى أكثر من إرجاع مصدر التمجيد للنغم الذي يُمجَّد بسببه هذا السيّد أو تلك السيّدة.
فرقةٌ أُخرى تسبّ الماضي وتنعت نغمه بالملل والإطالة والحشو، وتشيد بعصر الأغاني الشبابيّة والسرعة والحركة ومخاطبة الجيل بقضاياهم. تمجيدٌ للأشخاص كأنّهم نزلوا من الفضاء لا ماضي لهم.
في حوارٍ لي مع عبدالسلام أرسلان، موجّه أوّل التربية الموسيقيّة، نوفمبر 1996:
المطلوب: إعداد نشيد "خلّي السلاح صاحي"، ولحن "مصر التي في خاطري" مع مجموعة الموسيقى بمدرسة طه حسين الثانويّة، بنين.
أحد الحضور: سامعين الألحان؟ مش الكلام الفاضي بتاع اليومين دول! يقول لك أغاني شبابيّة!
رددتُ بصوتٍ منخفض: لكن، ما الفرق عمليّاً بين هذه الألحان والألحان الحاليّة إلّا فارق قرب اتّصال الأقدم منها بالموسيقى الصافية من المؤثّر الغربيّ، ثمّ فارق التقنية والتوسّع في استخدام لوحة المفاتيح وصندوق الإيقاعات الكهربائيّ؟
همّ القائل بزجري لكن قاطعه الأستاذ عبد السلام وطلب منّي الاستمرار.
قلتُ: إذا عايَنْتَ اللحنين الذين نحن بصدد أداءهما، الفارق الزمنيّ بينهما بضع سنين ليس أكثر، لكنّ صاحب اللحن الأقدم "مصر التي في خاطري" قرأ النغم على أبيه المنشد، وحين أتى القاهرة قرأ على أمثال الشيخ أبو العلا والشيخ علي محمود النغمَ الأصيل، وقرأ على الشيخ سيّد درويش وحتّى على محمّد القصبجي ما حاولوه في التأثّر بالموسيقى السمفونيّة في بعض الألحان.
أمّا صاحب اللحن الآخر "خلّي السلاح صاحي" فتأثّره كان بصاحب اللحن الأوّل، وبمعاصريه ممّن توسّعوا في التأثّر بالموسيقى الأورپيّة، وبعضهم تأثّر ببعض الموسيقى اللاتينيّة والأمريكيّة كالسامبا والجاز، إلى آخره، فحسب أنّ هذا سبيل التطوّر فسمع ما في الغرب في زمنه، مطلع الخمسينيات، وزاد قدر محاولة لصق ما عند الغرب في نغمنا. فجيله أوّل من توسّع في استخدام الآلات الكهربائيّة واستيراد الأفكار النغميّة ولصقها بمجرّد نشوئها ظنّاً أنّ في هذا سعةً في لحاق ركب التحضّر.
فما ذنب "بتوع الأيّام دي" إذا استوردُوا المزيد ولصقوا الأفكار النغميّة والإيقاعيّة وتوسّعوا في استخدام الأساليب الإلكترونيّة في إنتاج نغمهم؟ أعني هل فعلوا إلّا فعل الذين جاءوا من قبلهم؟ لماذا تمجّدون أولئك وتلعنون هؤلاء؟
قال من أراد زجري: صحيح، "قدّ الكفّ ويقتل ميّة وألف!" وهو مثلٌ يُستخدم في الإشادة، لا أعرف لماذا! وكان قصده أنّ في القول وجهة نظر.
أمّا الأستاذ عبد السلام فقال لي: بعد التمرين لنا لقاء. منذ هذه اللحظة بدأَتْ حواراتٌ بيني وبينه واكتشفتُ أنّه تلميذٌ في عزف الكمان لأحد أهمّ من أثّر في تطوّر عزف الكمان العربيّ، واكْتَشفْتُ أنّ من العقول من يؤثر السكوت تحاشياللمشاكل التي قد يجلبها الكلام.
كنتُ أسمع الأسطوانات القديمة المسجّلة مطلع القرن العشرين، وكنتُ أستغرب؛ لماذا يُهاجم القوم "يا ناس أنا دبت في دباديبه" ويمجّدون من غنَّى "فيك عشرة كتشينة" أو "الخلاعة والدلاعة مذهبي"؟ بل بعيداً عن مطلع القرن العشرين: لماذا يهاجمون من يغنّي "كدّاب مغرور قال مش بيحبّنا" ويمجّدون من غنّى "دقّوا الشماسي" أو "لا تحوشُه لأ ولا آه"؟ (في رأيي أن ليست جميع الأمثلة محطّ هجومٍ أو دفاعٍ من الأصل) أليس في هذا الزمن، أعني تسعينيات القرن الماضي، من يغنّي قصائد رائقة الكلام؟ لكن يغنّيها بنفس المنطق النغميّ السائد؟ وقتها لم أكن اطّلعتُ على المجلّات والجرائد، لم أكن اطّلعتُ على مخطوطات النغم الأقدم بقرونٍ من أسطوانات مطلع القرن العشرين.
ما حدث في النغم، في رأيي، بعد هزيمة الأمّة ووقوعها فريسةً غازٍ بعد آخر، ومحتلٍّ في إثر محتلّ، حاول بعض أهل النغم أوّل الأمر النهوض بالنغم بعد إدراكهم ما وصلوا إليه من تكرارٍ ودوران في نفس الحلقة، فوجدوا طرقاً للتداخل بين أنواع النغم، فصيحها ودارجها، الدينيّ والدنيويّ، محاولين الاستفادة من كلّ ميزةٍ لسائر أشكال النغم.
أخرجَت هذه المحاولة نغماً جديداً يختلف عن سابقه، لكن ينتمي لنفس تراكمه الحضاريّ نغماً وإيقاعاً. جاء جيلٌ آخر بعدهم، دخل عليه عنصرٌ جديدٌ هو تسجيل الصوت، فأصبح التسجيل سلعةً تحتاج إنتاجاً جديداً، فانشغل أهل النغم بكثرة الإنتاج عن مواصلة إيجاد أسباب التطوّر، فوجد الجيل الذي تلاهم -وكانت الهزيمة "هزيمة النفوس قبل الجيوش" اشتدّت- أنّ هذا النغم لا يصلح بذاته، إنّما يجب أن يحذو حذو المنتشر من النغم حول العالم؛ حينئذٍ الموسيقى الأركستراليّة، السمفونيّة في النغم، والأُوپرا في المسرحة والغناء.
رُفِض هذا النهج في البداية، لكن رفضه كان بتقديس الإرث النغميّ، وضعوه صنماً لا يُمسّ وغير قابلٍ للتجدّد، فابتعد الناس عنه جيلاً بعد جيل، وأُسيء فهم أصله في دوام التجدّد، حتّى حُفِظ ما كان مُرْتَجَلاً، وابتذل التكرار الإرث مللاً وجمودا، ومع دخول السينما وتغيّر التوجّه السياسيّ، أصبح هذا الإرث مادّةً خصبةً للسخرية على شاشات السينما والبرامج الضاحكة في الإذاعة.
من جهةٍ أُخرى، أَدْرك مريدو طبع نغم المنتصرين أصحاب الحضارة الحديثة خطأهم الذي سبّب رفض اتّجاههم في البداية، ثمّ صدمةٌ حضاريّة، لا بدّ من التدرّج في هذا النهج، فالرفض كان حتّى من أغلب أهل النغم أنفسهم.
بدأ التدرّج حتّى قبل دخول التسجيل، لكنّ اختلافاً في الصياغة النغميّة والإيقاعيّة لم يُلْحظ إلّا بعد نهاية الحرب العظمى، في المسرح الغنائيّ أوّلاً، ثمّ في عموم النغم.
أمّا سبب تسارع ملاحظة طبع الصرعات النغميّة في نغمنا حتّى أصبحت السبيل الوحيد للتقدّم من وجهة نظر أهل النغم والنقّاد والسمّيعة، هو زيادة وسائل الإيصال، فبعد الأداء الحيّ ووجوب الذهاب للسماع، وُجِد الفونجراف ثمّ السينما فالراديو، إلى آخر الوسائط المسهّلة لانتقال النغم وقت حدوثه ووصوله كلّ قارّات العالم.
هل هذه الحال خطأ؟ في رأيي أن لا، ليست الحال خطأ، بل نتيجةً جدّ مفهومة للانسحاق ورغبة التجدّد من دون فهم أسباب التدهور.
تقديس الماضي أو نبذه، كلا الأمرَين خطأٌ في رأيي.
من التجربة الشخصيّة أقول: إنّ المخطوطات النغميّة، والتسجيلات الصوتيّة، تزخر بالغثّ والسمين، لا بدّ ونظرة التمحيص فيما يصلح وهذا الزمن وما لا يصلح.
قراءة الماضي دون تقديسٍ وربطه بالحاضر خير طريقٍ لإدراكهما، أي الماضي والحاضر، تمهيداً للمستقبل.
الاستفادة من خبرة كلّ الحضارات الإنسانيّة وتراكمها ممكنةٌ دون طبعها أو نسخها، فالطبع يمحو الأصل، ويصبح نسخةً، والنسخة لا يمكن أن تكون أصلاً لما نُسِخَ عنه، والنتيجة مسخٌ غير معروف الأصل.
في محاولاتي المتواضعة في النغم، كان الإرث دوماً مادّةً حاضرةً دون تقديس، حتّى في أدائه، لم يكن الإرث النغميّ مصدر قداسة، بل دوماً، كأنّ النغم الذي أؤدّي من التراث يناديني: أنا لحنٌ غير جامد، أقبل التنويع والارتجال خلالي.
ليس تطوير التراث بأدائه مطعّماً بهذا النوع الموسيقيّ أو ذاك، أو أدائه مع آلات إلكترونيّةٍ، هذا نهج، كلّ إنسانٍ حرّ، وليس الغرض من هذه الكتابة الانتقاص من أيّ محاولة.
وليس أداء التراث بالتمسّك بتفاصيل النقل وإعادة إنتاجه كما سُمِع. في رأيي، إرث التراث النغميّ المقاميّ العربيّ قابلٌ دوماً للتأويل، لإعادة صياغة اللحن حسب طوالع الأحوال، عمليّة الأداء في نغمنا جزءٌ من عمليّة تأليفه. أداء النصّ النغميّ كتابةٌ جديدةٌ له.
مخطوطات النغم منذ تسعة قرون
حين أتمَمْتُ قراءة ما وصل ليدي من مدوّناتٍ وردَتْ في مخطوطات النغم منذ تسعة قرون، بدأ العمل مع الصنّاع لإعادة إنتاج آلات النغم القديمة، كما بدأَ فريق التنفيذ محاولة التدرّب الأسلوبيّ فنقترب، قدر المستطاع، من الأسلوب لكلّ عصرٍ نتناول نغمه. كلّ هذا ونحن على تمام العلم أنّنا لا نُحاكِي ولا نخرج متحفاً نغميّاً، بل نعيد إنتاج هذا النغم إنتاجاً مُعاصراً، اتّصالاً بالماضي لا رجوعاً له.
بعد تمام التدرّب وتصنيع الآلات، اطَّرَب العالم بالوباء "الجائحة"، بلعبة صراع العروش. لم نستطع الاجتماع، وأُجِّل التسجيل حتّى نهاية الفصل.
كنت محاطاً بأعواد من جميع الطبقات حين عزفتُ أحد ألحان هذه المخطوطات تسليةً لنفسي، ثمّ أخذتُ عوداً آخر فعزفتها من طبقةً أخفض ديواناً، ثمّ أخذتُ ثالثاً وعزفتها من طبقةٍ أحدّ ديواناً، فسمعتُ اجتماع الأصوات في أُذُنِي.
سجّلتُ اللحن بأربعة أعواد من أربع طبقات بطريقة التسجيل متعدّد القنوات، وضعتُ في الخلط كلّ عودٍ في مكانٍ من يمينٍ ويسارٍ ووسط، أو متقدّمٍ ومتأخّر، فجاء توزيع الصوت فاصلاً للآلات فلا يزدحم العزف.
قيل في حكايةٍ من حكايا النغم أنّ ستّ "ضاربات"، أي عازفات، كنّ يعزفن، فقال إبراهيم بن المهدي أنّ أحد الأعواد به خلل، فأشار إسحق الموصليّ لإحدى العازفات وقال لها: "أَصْلِحِي مَثْناكِ" أي اضبطي نغمة مطلق وتر المَثْنَى في عودكِ. فعجب الرشيد من سماع إبراهيم بن المهديّ وإدراكه الخلل، وعجب من دقّة تتبّع إسحق ومعرفة مكانه.
بمرور الوقت أصبح الستّة عشرة، ثمّ عشرين، فستّين فمائة فأربعمائة، ولولا انقطاع التحديث إلى النقل من المصنّفات لزادَتْ، نشكر الله على وقوفها عند هذا الحدّ.
في نظرةٍ موضوعيّةٍ لهذه القصّة: يبدو أنّ ثمّ عزفاً جماعيّاً بمجموعة أعواد وُجِد في هذا الزمن، فليست هذه الحكاية الوحيدة في هذا الشأن، لكن، هل وضع عشرات العازفين، أو مئات بعدد ما وُجِدَ في المصنّفات مبالغةً في العدد، استرجاعٌ لهذا الحدث؟
عندي السؤال ليس هذا، إنّما: كيف كانت تعزف مجموعة الأعواد، بأيّ نظامٍ نغميٍّ أو إيقاعيّ؟ ما عدد الطباق؟ ما فارق أطوال الأوتار وسمكها ومادّتها بين كلّ طبقةٍ وطبقة؟
تلك الأسئلة هي ما حاوَلْتُ الإجابة عليها في تلك التجربة ومحاولة التمرّس فيها بالتكرار ومواصلة محاولة الوصول للمصادر التي قد تجيب على أسئلتي.
لم يعنِنِي العدد، ولا الإبهار، إنّما المحاولة، علماً منّي أنّها محاولةٌ ليست محاكاة، بل أقول، لم تكن المحاكاة غرضاً لي من البداية.
إذن: كان الماضي سبيلاً للتطوّر، وساعد العصر وأدواته في هذا التجدّد. وليس القول إن كان هذا جيّداً أم غير جيّد، إنّما أهو ممكنٌ أم لا؟ إجابَتِي: نعم. ليس عن رأيٍ بل عن تجربة.
من أراد أن يقرأ الماضي ليقدّسه، سيصلح له مراده. ومن أراد أن يقرأه ليلعنه، سيصلح له ما أراد أيضاً. لكن، الرأي عندي أنّ كلتا القراءتَينِ ليس بهما بُعد النظر وتفتّح البصيرة الكافِيَيْنِ لاستخراج مكامن الكنوز في التراث.
نستطيع أن نجعل من التراث ظهراً نستند عليه ودفعةً للتجدّد لو تركنا تقديسه.
نستطيع أن نتمكّن من آليّات العصر ونطوّعه لخدمة الحاضر واستشراف المستقبل، أيضاً إن تركنا تقديسه.
النغم، ماضيه وحاضره ومستقبله، ليس ملهىً نلهو به كمالةً لمظاهر بذخ الحياة. بل النغم مرآة الحضارة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. نستطيع باعتباره ملهىً أن نلعب به ونتمتّع بالمتع الحسّيّة الظاهرة، أمّا لو غدا مرآةً للحضارة فالنغم طريق الخلود في الحضارة والصعود لعالم النعيم الدائم وعالم إشراق النفوس الأبديّ.