الحاصل أنَّ عمر بن عبد العزيز لم يحظر الغناء لا في إمارته على المدينة، ولا في خلافته، إنّما كانت قضيّته، خصوصاً مع الشعراء، الإفراط في المدح روم العطاء، وفي هذه قصصٌ مشهورةٌ تُحكى عنه مع الشعراء.
أغلب الظنِّ أنَّ علم عمر بن عبد العزيز بالغناء كان علم الدارس، فقد كان مجتهداً في تحصيل العلم، فهو الفقيه المحدِّث، وهو العالم في الحساب والفلك والرياضيّات، له مشاركاتٌ في إصلاح الدواوين وحساب الخراج وإصلاح التربة للزراعة، بل له علمٌ بالفيزياء فساهم في إصلاح المسطّحات المائيّة والسدود لحفظ الماء وسقي التربة.
في خناصرة: كان أرباب الدير يخرجون من الدير حين يؤمّ الناس للصلاة ليسمعوا تلاوته خشوعاً وحبّاً للجمال.
كان مُهاباً حتّى في موته، فهذا مسلمة بن عبد الملك، ابن عمّه وقائد جيوشه، يروي كيف كان مُهاباً حتّى في هذه اللحظة، لحظة الانتقال من دارٍ إلى دار:
المجلّد الثاني، ص768:
ينتهي السند عند محمّد بن مسلمة بن عبد الملك قال:
“حدثني أبو مسلمة قال:
كنّا عند عمر في اليوم الذي تُوفي فيه، أنا وفاطمة بنت عبد الملك؛ فقلنا له: يا أمير المؤمنين، إنّا نرى أنّا قد منعناك النوم فلو تأخّرنا عنك شيئاً عسى أن تنام! قال: ما أبالي لو فعلتما. قال:
فتنحيت أنا وهي وبيننا وبينه ستر. قال: فما نشبنا أن سمعناه يقول: حيّ الوجوه حيّ الوجوه.
فابتدرناه -أنا وهي- فجئناه وقد أغمض ميتاً، فإذا هاتفٌ يهتف في البيت لا نراه: “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين”.
أين هذا مِنْ مَنْ أشاعوا في المجتمع أنّ الغناء والنغم يُسقطان المهابة عن صاحبهما؟
بل صدق أبو حامد الغزالي في قوله:
“من لم يحرّكه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، فاسد المزاج، ليس له علاج”.
كما ذكرنا سابقاً، يبدو أنَّ عمر بن عبد العزيز كان عالماً في الموسيقى، فألحانه، على قلّتها، بها تعدّدٌ في الأنغام، وضروبٌ تنمّ عن تفنّنٍ في قسمة الكلام زمناً على اللحن، ولنختم مع أبي الفرج من نفس صفحة الاقتباس السابق:
“ومن أصوات عمر في سعاد
صوت:
ألا يا دين قلبك من سليمى كما قد دين قلبك من سعادا
هما سبتا الفؤاد وأصبتاه ولم يدرك بذلك ما أرادا
قفا نعرف منازل من سليمى دوارس بين حومل أو عرادا
ذكرت بها الشباب وآل ليلى فلم يرد الشباب بها مرادا
فإن تشب الذؤابة أمّ زيدٍ فقد لاقيت أياماً شدادا
عروضه من الوافر. الشعر لأشهب بن رميلة فيما ذكر ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني. وحكى ابن الأعرابي أنه سمع بعض بني ضبة يذكر أنه لابن أبي رميلة الضبي. والغناء لعمر بن عبد العزيز
رملٌ بالوسطى عن الهشامي وحبشٍ وغيرهما. وفي نسخة عمرو بن بانة الثانية:
لخزرجٍ رملٌ بالبنصر.
حدثني محمد بن أحمد ين يحيى المكي عن أبيه
قال: لعمر بن عبد العزيز في سعاد سبعة ألحان.
منها:
يا سعاد الّتي سبتني فؤادي ورقادي هبي لعيني رقادي
ولحنه رملٌ مطلق.
ومنها:
حظّ عيني من سعاد أبداً طول السهاد
ولحنه رملٌ بالسبابة في مجرى البنصر.”
فهذه نماذج متمكّنٍ يستطيع تقطيع نفس الضرب العروضيّ على نظيره الإيقاعيّ نغماً كما في الرمل، ويستطيع قسمة بحرٍ آخر على نفس إيقاع الرمل، كالوافر. ليس هذا فحسب، بل يستوعب المؤثّر النفسيّ للنغم، فيعبّر عن معنى الشعر به، فإذا أراد البسط، استحضر المطلق، وهذا مؤثّره، وإذا أراد الشجن، استعمل الضغط، كالسبّابة؛ لتقليل الرنّة ولبعد السبّابة عن الوسطى الّذي يقلّ عن بُعد المطلق عن السبّابة.
ليت في زماننا من يرعى النغم والفنون ويمقت التملّق بالأدب والفنّ كما فعل عمر بن عبد العزيز الّذي ملأ الأرض عدلاً، وأعطى الإنسانيّة فيه درساً لن يسقط بالتقادم.