من أكثر القضايا التي شغلت الأوساط المعنيّة بالفنون في الآونة الأخيرة من ممارسين للفنّ أو منظّرين له وصولاً إلى متذوّقي الفنون: ما الطريق الذي ينبغي أن يُسلك للتقدّم والمعاصرة؟ فهم في هذا فرقاء عدّة "كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون"، منهم من يرى أنّ الفنون لا بدّ أن تتطوّر عبر النقل من بعضها عن البعض عبر النقل الحرفيّ من نوعٍ لآخر، ويرى فريقٌ آخر أنّ الفنون هي هويّة الشعوب ولا بدّ من المحافظة على ما تركه السلف دون أيّ مساسٍ به ، ومنهم من يقول إنّ الفنّ لا بدّ وأن يتطوّر عبر تأويل الموروث وتحويله إلى جديد وهم قلّة، وفي هذا الأمر يختلف الفرقاء ويتجادلون ليصل الأمر إلى تسفيه غلاة كلّ فريقٍ للإخر كما هو الحال في كافّة مناحي الحياة من قِبل الغلاة.
أمّا الفريق الأقلّ فهو من يقول أنّ كلّ هذه الطرق يُمكن أن تقف جنباً إلى جنبٍ دون تناحرٍ في حال استطاع الكلّ سماع أكثر من صوتٍ ورؤية الجمال في اختلاف الأمور.
وحيث أنّ هذه السلسلة تأخذ أنواع الموسيقى العربيّة نموذجاٍ مجسّداً لهذا الصراع الفكريّ في إشكاليّةٍ تتلخّص في ماهيّة التراث وهويّة المعاصرة فأقول:
إنّ تاريخ الموسيقى العربيّة يدرّس في المعاهد الموسيقيّة المختلفة ويُعرض للناس في وسائل الإعلام المختلفة، والحديث هنا عن تاريخ الموسيقى العربيّة المعاصرة، وكأنّه نهرٌ يجري من منبعه إلى مصبّه دون أيّ عقباتٍ أو مشاكل تاريخٌ يجري جري النيل أو دجلة أو الفرات، إنّ هذه الصورة المثاليّة هي التي جعلت النماذج التي يأخذها كلّ من الموسيقيّ الممارس والسامع على حدٍّ سواء، نماذج قريبةً حيث أنّه لا يعرف ما كان قبل تلك النماذج ولا يعرف الظروف وراء جعل هذه النماذج هي القدوة دون غيرها. فكلّ جيلٍ يأتي يرى الجيل الذي قبله مثلاً أعلى دون أن يفكّر من الأساس عن من كان قبلهم، بفرضيّةٍ تقول أنّ هذا الجيل متطوّرٌ عن من سبقه فلا داعي لمعرفة شيءٍ عن ما قبل التطوّر، أعني من وجهة نظر التاريخ المعهديّ، وأعني به النظام الأكاديميّ المستورد من أساسه والذي لنا فيه حديثٌ في مقالٍ آخر عن المعاصرة والتعلّم. هذا بالضبط ما فصل كلّ حقبةٍ موسيقيّةٍ عن سابقتها وما جعل الناس منقسمةٍ كلُّ فريقٍ في تعاطفه مع الجيل الذي قرّر التعاطف معه. فكما هو الحال في كلّ مناحي الحياة، فإنّ كلّ من يأتي إلى مكانٍ ما لا يُكمل من بدأه سلفه، بل يبدأ من جديدٍ كأن لم يأتِ قبله أحدٌ وفي أغلب الأحوال يقول أنّ ما قبلي هو عهدٌ بائدٌ وفي أحسنها أنّه قادمٌ بفكرٍ جديدٍ لا يستقيم مع من كان قبله.
شهدت الموسيقى العربيّة نهضةً خلال القرن التاسع عشر وبدأ عصرُ ازدهارٍ جديد للموسيقى الفصحى (الكلاسيكيّة) العربيّة حيث وجدت من يرعاها مع من يرومون النهوض بها من أهل النغم أنفسهم، لكن هذه النهضة لم تتبلور في شكلٍ واحدٍ على صعيد الموسيقى الفصحى فحسب، بل شملت كذلك الموسيقى العامّيّة (البوب) والشعبيّة (الفلكلور) واحتى التقاليد الموسيقيّة لدينيّة المختلفة،على إنّ عدم قدرة الفرقاء على سماع أكثر من صوت، سواء الممارسون أو السمّيعة، إلا من رحم ربّي، جعلت بعض تلك الأنواع تطغى على بعض، وتحاول إلغاءها والتخلّص منها، حسب صرعة العصر (موضا) وحسب رغبة الحكّام تارةً ورغبة وسائل الإعلام تارةً أخرى ورغبتهما معاً في أغلب العصور.
فإذا أخذنا الموسيقى الفصحى العربيّة مثلاً على محاولة طغيان نوعٍ على آخر، نطرح ما يلي:
تصدّرت الموسيقى الفصحى المقاميّة المشهد الفنّي في الوطن العربيّ خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحين بدأت التسجيلات في آخره أخذ هذا النوع أوسع اهتمامٍ من قِبل شركات التسجيلات. بعد انقضاء عقدٍ من التسجيلات أي بعد خمس سنواتٍ من القرن العشرين، انتبهت شركات الاسطوانات إلى الأنواع الأخرى من موسيقاتٍ دينيّةٍ وشعبيّةٍ وعامّيّةٍ على اختلاف طبقات العامّة، كذلك الصرعة "الموضا" التي تشغل كلّ فىةٍ منهم. على أنّ أغلب التسجيلات ظلّت من نصيب الموسيقى الفصحى.
حين حلّت التقاليد العامّيّة نهجاً بديلاً في الصدارة بعد التغيّرات الاجتماعيّة الناتجة عن الحرب العظمى، أعني الحرب العالميّة الأولى،، وجدنا تشبّثاً عصبيّاً للماضي لمن أصرّ على استمرار الموسيقى الفصحى وتسفيهاً منهم للمحدثين، ثمّ وضع أولئك أنفسهم هذا الإرث بحرفيّته دون رغبةٍ منهم في استمرار تطويره في متحفٍ زادها بعداً عن معظم الناس لا سيّما الأجيال الجديدة منهم.
في نفس الوقت، نجد تسفيهاً من أهل الحداثة المعتمدة على النقل والاستيراد منهجاً للحداثة ازدراءاً للموسيقى الفصحى، ثمّ تسفيهاً لها، نجد هذا كثيراً في أفلام أواخر الأربعينات وبشدّةٍ مبالغٍ فيها في أفلام الخمسينات في مصر مثلاً.
بعد هذا حين تتبنّى السلطة فكرة العهد البائد، نجدها تدمّر هذا الإرث المسجّل تدميراً ممنهجاً وتلقي ما في مكتبات الإذاعات والمكتبات العامّة إلى غيابات الجبّ ليلتقطها الهواةٌ ووالتجّار والمتحفيّون.
والآن يُجمع ما أمكن أو ما تبقّى إذا جاز التعبير، من هذا الإرث من كلّ حدبٍ وصوبٍ بعد أن ضاع الكثير منه بين سوء التخزين تارةً والتدمير تارةً أخرى.
إنّ في هذا المثل مرارةً كافيةً للكثير من الغمّ على أنّ طرحه لا يروم هذا، بل أقول، لا بدّ أن نتوقّف عن بكاء أطلال ما حدث، بل طَرْحُ هذا المثل هو للدرس الذي لا بدّ أن يُعتبرَ منه، وهو ببساطةٍ عدم تكرار ما حدث.
أنّ في بعض الهيئات الداعمة للفنون مثلاً عظيماً للدعم المتجرّدِ من غرضِ إبداء نوعٍ على نوع، وشكلٍ على شكل، وفي بعضها الآخر نموذجاً معاكساً أي استمراراً لنهج سماعِ صوتٍ واحدٍ وإيثاره على ما هو مغايرٌ له من أصوات حسب موافقة صاحب الدعم. وينبع التفاؤل لدينا بسبب وجود النوع الأوّل وهو أملٌ أن يحذو أهل الفنّ ومتذوّقوه هذا الحذو فنكون جميعاً قادرين على سماع بعضنا البعض، ورؤية الجمال في اختلاف الأمور ونتيجة هذا ستكون صحوةً جديدةً وعودة مكانة الفنّ بين أهله ومتذوّقيه وإكثارهم فإذا كان الفنّ مرآةُ الأمم فمتذوّقوه هم بريقُ تلك المرآة وداعموه هم دعامتها.