يشيع في الموروث الشعبي في أُمتنا أن الأقدمين اعتبروا أن الغناء والنغم نقصان من مروءة صاحبهما، حتى وصل هذا إلى الأمثال الشعبية الدارجة؛ مثلاً: (ولد الحمايل ما يدكّ عود). والحق أن هذا قد ينطبق على الوعي العام ما بعد القرن التاسع الهجري، أما قبل هذا فأغلب المصنفات تتحدَّث عن الأمراء والخلفاء المغنِّين والضاربين بالآلات دون أن ينقص هذا من مروءتهم شيئاً، بل يقولها ابن خلدون صراحةً في تاريخه إن العرب لم يَرُوا في الغناء نقصاناً في المروءة، بل اعتبره أغلبهم مكملاً للحلم ولين الطبع، لذا ظهر من الخلفاء والأمراء ورجال الدولة من جهر بالغناء ناهيك بسماعه.
أما ما أخافَ بعضَ رجال الدولة العالمين بالغناء والنغم علماً وعملاً فهو اجتماع الغناء مع الشرب المفضي إلى السكر الذي قد يذهب بوظائفهم؛ خصوصاً الحساسة منها في الدولة، مثل القضاء؛ لذا تجد بعض المشتغلين بهذه الوظائف عازفين عن حضور تلك المجالس تحديداً، ليس عموم مجالس السماع؛ مثل القاضي العالم الآتية قصته.
ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، طبعة المطبعة الحجرية، 1280ه:
النسخة الرقمية، الترقيم الآلي:
نفس تقسيم المنشور المطبوع في 6 مجلدات، المجلد الثاني صـ729:
في أخبار إبراهيم بن المهدي، كان يحسن الإيقاع على الطبل والزمر بالناي:
أخبرني أبو الحسن علي بن هارون، قال ذكر لي أبو عبدالله الهشامي عن أهله، قال قال إبراهيم بن المهديّ -وقد خرج إلى ذكر الطبل والإيقاع به- فقال إبراهيم: هو من الآلات التي لا يجوز أن تبلغ نهايتها. فقيل له: وكيف خُصَّ الطبل بذلك؟ فقال: لأن عمل اليدَين فيه عملٌ واحدٌ ولا بد من أن يلحق اليسار فيه نقصٌ عن اليمين، ودعا بالطبل ليرينا كيف ذلك؛ فأوقع إيقاعاً لم نكن نظن أن مثله يكون، وهو مع ذلك يرينا موضع زيادة اليمين على اليسار.
قال: وقال له الأمين في بعض خلواته: يا عمّ: أشتهي أن أراك تزمر.
فقال: يا أمير المؤمنين ما وضعت على فمي ناياً قطّ ولا أضعه؛ ولكن يدعو أمير المؤمنين بفلانة -من موالي المهدي- حتى تنفخ في الناي وأمرّ بيدي عليه. فأُحضرت ووضعت الناي على فيها وأمسكه إبراهيم. فكلما مر الهواء أمرّ أصابعه فأجمع سائر مَن حضر أن لم يُسمع مثله قط.
هل يُعقل أن يجيد أحدٌ تحريك أصابعه على الناي دون أن ينفخ فيه؟ أليس للنَفَس أيضاً دورٌ في إخراج الأنغام على اختلافها ديواناً وتآلفاً في الناي؟ وهل يغيب هذا على مَن هو في مثل علم إبراهيم بن المهدي بالغناء علماً وعملاً؟ هل سيُخفى عليه أن عدم توافق الأصابع والنفخ سيخرج نغماً محدوداً أميل للضعف منه للإجادة؟
لننتقل إلى موضعٍ آخر من نفس المجلد ونفس الجزء عن أخبار إبراهيم بن المهدي:
ص747:
غنت هي وأخوها إبراهيم، وزمر عليهما أخوهما يعقوب:
حدَّثني عمِّي قال حدَّثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي، قال حدَّثني يوسف بن إبراهيم، قال قالت لي عريب:
أحسن يوم رأيته وأطيبه يوم اجتمعتُ فيه مع إبراهيم بن المهدي عند أخته عليّة وعندهما
أخوهما يعقوب، وكان أحذق الناس بالزمر. فبدأت عليّة فغنتهم من صنعتها وأخوها يعقوب يزمر عليها:
صوت
تَحَبَّبْ فَإنَّ الحُبُّ داعِيةُ الحُبِّ وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدارِ مُسْتَوْجِبُ القُرْبِ
وغنى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب:
صوت
يا واحِدَ الحُبِّ ما لِي مِنْكَ إذْ كَلِفَتْ نَفْسِي بِحُبِّكَ إلّا الهَمَّ والحَزَنَ
لَمْ يُنْسِنِيكَ سُرُورٌ لا وَلا حَزَنٌ وَكَيْفَ لا كَيْفَ يُنْسَى وَجْهُكَ الحَسَنُ
نُورٌ تَوَلَّدَ مِنْ شَمْسٍ وَمِنْ قَمَرٍ حَتَّى تَكَامَلَ مِنْهُ الرُوحُ والبَدَنُ
فما سمعت مثل ما سمعته منهما قط وأعلم أني لا أسمع مثله أبداً.
لنفترض أن إبراهيم كان يرى في الزمر ما يُنقص المروءة، وليس يرى هذا في ضرب العود، فكيف لم يَلُمْ أخاه يعقوب؟ والحقّ أن الجملة الأُولى من النص الأول تُثبت أن إبراهيم كان يعرف ولو شيئاً قليلاً من عمل الناي؛ لكن إذا تصفَّحنا نفس المصنَّف، مخطوط الشيخ حسن العطَّار، وجدنا في الكراسة السابعة عشرة في أخبار المأمون هذه القصة المذكورة أعلاه بروايةٍ مختلفةٍ ينتهي سندها إلى حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
حضر يحيى بن أكثم مجلس المأمون يوماً في خلافته، وكان قد نما إلى المأمون أنه يزمر في الناي، فقال له: هل حقاً تحسن الزمر بالناي؟