المجلد الثاني، ص891:
“أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال حدثني جرير بن أحمد بن أبي دواد، قال حدثني أخي عن أبي قال: كنت أتجنب الغناء وأطعن على أهله وأذم لهجهم به. فوجَّه المعتصم إلي عند خروجه من مدينة السلام: الحق بي، فلحقت به بباب الشماسية ومعي غلامي زنقطة، فوجدته قد ركب الزورق وسمعت عنده صوتاً أذهلني حتى سقط سوطي من يدي ولم أشعر به ثم احتجت، وقد أعنق بي برذوني، أن أكفه بسوطي. فقلت لغلامي: هات سوطك، فقال: سقط والله من يدي لمّا سمعت هذا الغناء. فغلبني الضحك حتى بان في وجهي. ودخلت على المعتصم بتلك الحال. فلمّا رآني قال لي: ما يضحكك يا أبا عبدالله؟ فحدثته. فقال: أتتوب الآن من الطعن علينا في السماع فقلت له: قبل ذلك من كان يغنيك، قال: عمّي إبراهيم كان يغنّيني، ثم قال: أعده يا عمّ ليسمعه أبو عبدالله فإني أعلم أنه لا يدع مذهبه. فقلت: بلى والله لأدعنه في هذا ولا لمتك عليه. فقال: أما إذ كانت توبته على يديك يا عمّ فلقد فزت بفخرها وعدلت برجل ضخم عن رأيه إلى شأننا”.
هذا صوت إبراهيم بن المهدي الذي سبق الحديث عنه، جعل رجلاً من أكثر المتشددين يعود عن رأيه، ولنختم مقالنا بصوتٍ غناه إبراهيم كان له أطيب الأثر في نفس سامعيه:
المجلد الثاني، ص895، حسن ترجيعه في لحن:
أخبرني أبو الحسن علي بن هارون أيضاً قال حدثني أبي قال حدثني عبيدالله بن عبدالله وأبو عبدالله الهشامي، قالا: كان إبراهيم بن المهدي إذا غنَّى لحنه:
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفّكم أو تسترون هلالها
فبلغ إلى قوله:
جبريل بلّغها النبيّ فقالها
هزّ حلقه فيه ورجّعه ترجيعاً تتزلزل منه الأرض.
فهذا فعل الجمال في الأنفس السوية، ومهما غشيت النفس غشاوة التشدد والتطرف في الفكر، إذا رجعت إلى فطرتها استجابت لمؤثر الجمال والإبداع؛ فإبداع المخلوق من إبداع الخالق، ولعل تقديم السمع على البصر في كتاب الله خير قرينة على إثبات نظرية ابن خلدون أن الجمال المنبعث من النغم أقرب للوصول للنفس من المنظور؛ لأنه لا يلزم مادة إنما هي موجة تنتقل بالفراغ بنسب حسابية مستحسنة تستلذ بسماعها الأنفس. فلعل سهولة استجابة الأنفس للجمال في ذاك الزمن كانت لقلة ما يغشاها من مؤثرات خارجية تمنع وصول الجمال إلى أعمق أعماق النفس. أما في هذا الزمن، وانتشار الآلة والصخب، فقلما تسمع الأذن الصوت من طبيعته إلى طبيعة النفس؛ بل غدت تسمعه عبر آلة مكبرة للصوت أو غير مكبرة له، ولو سمع الناس الصوت على طبيعته لقلّ مَن ينكر السماع؛ لأن الطبيعة إذا خاطبت الطبيعة برز منها الجمال وألقته في أعماق النفس، فاستقبلته النفس أرحب استقبال، كيف لا وهذه النفس هي أحسن تقويم.