حدَّثنا المخرمي عن أبيه، قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه فتعذَّر ذلك عليَّ وصعب مرامه، فرأيته عند الفضل بن الربيع فسألته أن يعرِّفه موضعي من عنايته ومكاني من الأدب والطلب وأن يتقَّدم إليه بحديثي، ففعل وأوصاه بي، فقال: إن أبا محمد من أهل العلم وحملته. قال: فقلت: تفرض لي عليه ما يحدثني به فسأله في ذلك، ففرض لي خمسة عشر حديثاً في كل مجلس، فصرت إليه فحدثني بما فرض لي فقلت له: أعزَّك الله صحيح كما حدَّثتني به، قال: نعم، وعقد بيده شيئاً قُلت: أفأرويه عنك، قال: نعم، وعقد بيده شيئاً آخر، ثم قال: هذه خمسة وأربعون حديثاً، وضحك إليَّ، وقال: قد سرَّني ما رأيت من تقصِّيك في الحديث وتشددك فيه على نفسك فصر إليَّ متى شئت حتى أحدثك بما شئت”.
فقد كان، بشهادة أهل زمانه، نهماً للعلم وتحصيله والإبداع فيه، وها هو عبدالله بن المعتز في بديعه يقول عنه: “مات إسحاق بن إبراهيم الموصلي وهو أشعر أهل زمانه”؛ يقصد أن كل فحول الشعراء الذين فاقوه ماتوا قبله، فحين مات كان هو أبلغ شعراء زمانه في نظم الشعر، وقصائده تشهد ببراعته، وكان محترماً مبجَّلاً عند أهل الحديث والفقه والأدب.
نعود إلى أبي الفرج في حديثه من نفس موضع الاقتباس السابق:
“حدَّثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فرحَّب به، وقال: هاهنا يا أبا محمد إلى جنبي، فلئن بعدت بيننا الأنساب لقد قرَّبت بيننا الآداب”.
أول وظيفة في الدولة لإسحاق بن إبراهيم الموصلي كانت موسيقياً في بلاط هارون الرشيد، سعى لتعيينه فيها أبوه إبراهيم بن ماهان الموصلي، فترقَّى في الوظائف حتى وصل إلى كبير الموسيقيين، والإشراف على الأمسيات التي تُقام للخليفة في بلاطه، ثم تدرَّج في الوظائف حتى أصبح من مستشاري المأمون وخواص رجال دولته، فأصبح يدخل على الخليفة في مجلسه الاستشاري ثم يجلس معه في الأمسيات الموسيقية مع ندمائه، فإذا طُلب منه الغناء غنَّى: وقد تُروى قصة ترقِّيه في المناصب في هيئة الأساطير؛ لكن تبقى نفس النتيجة.
المجلّد الثاني ص15:
“سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنِّين، فإذا أراده للغناء غنَّاه فأجابه إلى ذلك ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء، فأذن له.
قال: فحدَّثني محمد بن الحارث بن بسخنّر أنه كان هو ومخارق وعلويه جلوساً في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون وخروج الناس من عنده؛ إذ دخل يحيى بن أكثم وعليه سواده وطويلته ويده في يد إسحاق يماشيه حتى جلس معه بين يدي المأمون فكاد علويه أن يجن، وقال:
يا قوم أسمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغنٍّ حتى يجلسا بين يدي الخليفة!”.
وبصرف النظر أن هذه الحكاية صيغت لتبرير غبطة علويه وأغلب أهل النغم من إسحاق، والمكان الذي وصل إليه نفوذاً في الدولة؛ فلم يكن من أهل النغم من وصل إلى هذا النفوذ في أية دولة في الإسلام ولا قبله.
ولعل بداية توظيف إسحاق بن إبراهيم الموصلي في البلاط بصفته موسيقياً أو نديماً، وربما ما عُرف عنه من مطارحة الجواري، والاشتراك في بيع الرقيق متقني النغم، هو السر الحقيقي وراء عدم تعيين المأمون له في القضاء، وعدم اصطحابه للمقصورة بالسواد في صلاة الجمعة؛ فقد أشاد به في موضعَين بأحقيته من غيره في ولاية القضاء: فها هو يحيى بن أكثم، قاضي قضاة الخليفة المأمون، يشهد له بعد مناظرته الشهيرة مع العطويّ فيخبر العطويّ أنه جار عليه في الحكم فيستشهد بالمأمون:
“كان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء
لوليته القضاء بحضرتي؛ فإنه أولى به وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة”.