March 27, 2019

مصطفى سعيد في لشبونة لتكريمه في جائزة آغا خان

وقع اختيار الاستاذ مصطفى سعيد في قائمة المكرمين النهائية في جائزة آغا خان و ذلك في لشبونة لدورة ٢٠١٩م.

التفاصيل على هذا الرابط

https://www.akdn.org/akma/project/mustafa-said

موقع جائزة آغا خان

https://www.akdn.org/akma

يذكر أن هذه الجائزة تمنح للمتميزين في العالم الإسلامي والمبدعين في الأداء الموسيقي و التأليف و التعليم و الحفاظ على الموسيقى و بعدها في العالم مجددا.

تعقد هه الجائزة في لشبونة في الفترة من ٢٣ مارس الى ٣١ من هذا العام ٢٠١٩

October 30, 2017

في موضوع، الكلام في الغناء

عمّي وعمّ عيالي، أخي صاحب المقام الرفيع والبحث المضني البديع السيّد الفاضل اسماً وصفةً،

ليتني أوتيت شطراً من فصاحتك فأعبّر عن مدى ما أريد تقديمه لك من التحيّة والاحترام والإجلال لدأب عملك ولك،

أمّا بعد:

فإنّي لم أكن لأراجع قولك في المقال المربوط لي من قِبَلك الكريم في رسالتك إلّا لسماع صوتٍ قرأ سطح الكتاب دون غوص، وفهم شكل السطر ورسمه دون مضمونه ووسمه. وعلى ما أنا فيه من تواضعٍ في إعمال منتهى البحث إذا ما قورنتُ بكم، إلّا أنّ مراجعتي هذه وإن لم تُفِد، فلا أحسبها تضرّ.

سيقول قائلٌ أنّ سبب اعتقادك قلّة أهمّيّة اللحن للكلام هو تخلّف الموسيقى تارةً، أو عدم اكتراث القوم بالكلام أُخرى، وسيقول بعض المتعصّبة لفنون الغالب أنّ موسيقاكم غناءيّةً صوتيّةً، وموسيقاهم غير هذا، لذا فالعنصر الغناءيّ هنا مهمٌّ، إلى آخر هذا الرأي السائد المعروف. رغم أنّ قياس الموجود المسجّل آليّاً وغناءيّاً بين التقليدين ليس بذاك!

أمّا الرأي عندي أنّ الأجدر أن نطرح الأمر من كلّ زواياه، فلو احتججتَ أنّ للأمر أجزاء أُخرى، فالقول عندي أنّ هذا ليس بيّناً عندك لننتظر تمام قولك. لذا فالضرورة عندي، وواجب الأخوّة، اقتضى عليّ هذه المراجعة. و سأحذو فيها حذوك بالتمثيلات نفسها وإن زِدتُ عليها أو أنقصتُ منها، فهي لضرورة المراجعة.

أقول أنّ الشعر مُلقاً أو مقروءٌ له لذّته، فنحن نحبّ سماع الشعر وقراءته. أمّا النغم، فليس لقراءته لذّة، فلذّة سماعه هي الغالبة، أمّا المتمرّسون في صنعة قراءة وكتابة النغم، فهم يستلذّون القراءة أحياناً لإعمالهم الفكر في السماع، وهذا ينطبق ضمناً على النغمة المحفوظة في ذهنك، فإنّك تستطيع أن تصوّر صورةً للحنٍ ما تنفيذاً دون سماعها واقعاً، أعني أهل الصنعة وإنتاج النغم والسمّيعة الحفظة أيضا. لكنّ لذّة قراءة الشعر في إعمال الخيال سمعاً وبصراً هي تمثيل الكلام على الواقع. لذا جاء اجتماع الكلمة والنغم ليكمل بعضها بعضا، ويصلوا فيها لكمال السماع ومن هذه النقطة سأضع القراءة وإعمال الخيال بها جانباً.

لا أختلف معك أنّ المضاف إليه قد يعلو درجةً على المضاف، فالنغمة إذا أُضيفت على اللحن، قُسِم الانتباه عند المتلقّي بل والمُلقي إلى شقّين لا شقّاً واحداً. أمّا مسألة عدم أهمّيّة الكلمة إذا كانت صنعة اللحن محكمةً فإنّي أدفع بأمور عدّةٍ فيها، وإن كنت أخالك لم تعنِ هذه الخلاصة التي قد يخلص إليها بعض القرّاء.

منذ بواكير الكتب بين أيدينا التي كُتِبَت عن النغم، واقتران الكلام فيها بيّنٌ، حتّى أنّ أمثلةً أتت بالغناء قبل الإسلام للتمثيل على مسألة الإقواء، وكيف أنّ الأعشى حين قالوا له أنّ في شعرك إقواءٌ لم يعرف الإقواء، فأتوا له في يثرب بمغنّيةٍ فلمّا مدّت آخر الأبيات، وضمّت القوافي في آخر بيتٍ رغم كسر كلّ الأبيات، فهم وقتها الشاعر معنى الإقواء.

وهناك المناظرة المحفوظة عند أبي الفرج بين إسحق الموصليّ، وإبراهيم بن المهديّ، في فكرة لزوم العروض للضرب أم قسمة العروض على أيّ إيقاع. ولم ينكر القوم أنّ في غناءهم صيحاتٌ وترنّمٌ خارج الشعر المغنّى، لكنّهم لم يهملوه.

وإن تقدّمت في الكتب ومدوّنات صفيّ الدين، فستجد الشعر المكتوب للّحن شعراً جذلاً جميلاً، وكذلك عند قطب الدين الشيرازيّ، فرغم أنّ صفيّ الدين لم يكتب ترنّم الصوت الذي دوّنه، كتب قطب الدين ترنّم القول، وإن عاينت شعره، هو شعرٌ جيّدٌ جدّاً من حيث الصياغة الأدبيّة.

ولن أتحدّث عن فتراتٍ أُخرى خشية الإطالة، بل سأنتقل رأساً إلى ما وضعتَ في مقالك من تمثيل: لمّا بدا يتثنّى، لماذا حكمنا عليه بعدم جودة الكلام؟ هو غير جيّدٍ بالنسبة لزماننا نحن، أو بالنسبة لما نقرأ من شعرٍ فألِفنا قراءته وأحببناه. لكن، لو عاينّنا أشعار تلك الفترة، أعني القرن الثاني والثالث عشر الهجريّ، ستجد كلّ الشعر، في شتّى القوالب، غزلاً ومديحاً حتّى المدائح النبويّة، في قوالب كالبلاليق والتخميس والمربّعات، إلخ، كذا كان ذوق القوم! فلماذا الحكم عليه بالسوء وإن لم يناسب عصرنا؟ هو أيضاً غير رائقٍ لي، أمّا من كتبوا في الشعر الفصيح على البحور، فكان من أجاد في هذه العصور، الإمام الشبراويّ مثلاً وليس تفرّداً، وإلى الآن يغنّى شعره.

أمّا تمثيلك الثاني عن ملا الكاسات فأقول:

كان لبعض الملحّنين ولعٌ بالغناء دون الآلة، فأنت إذا تناظرت مع لحن ملا الكاسات، خصوصاً لو أضفت للحنه خانته الرابعة الموجودة في تسجيل الشيخ أحمد صابر، فستكتشف دون وجه شكٍّ واحدٍ أنّه سماعي على النسق العربيّ الذي لا تختلف فيه الخانة الرابعة ضرباً عن باقي الخانات. فخانته الأولى ولازمته راست، ثمّ الثانية في حجاز الخامسةِ نزولاً إلى السيكاه من الثالثة في نغمة السُزنَك المتفرّعة عن الراست، فالثالثة من الكردان، والرابعة من السيكاه. وهو في قولبته يشبه السماعي الثقيل البيّاتي المعروف، وقد سمعتُ من الأستاذ عبد السلام أرسلان عن عزيز عثمان عن محمّد العقّاد الكبير عن محمّد عثمان أنّهم دأبوا على عزف هذا اللحن آليّاً مراراً حتّى جاءهم محمّد عثمان يوماً بهذا الكلام، الذي يتّضح ممّا لا شكّ فيه أنّه منزلٌ على اللحن. وقد نما إلينا مثلٌ آخر في الموسيقى العامّيّة، وهو لحنٌ جميلٌ لبليغ حمدي، بتحبّني والّا الهوى عمره ماطالك، قال أنّ اللحن وُجِد أوّلاً وأنّه نزّل عليه الكلام تنزيلاً، والكثير من هذه النماذج موجودةً حتّى في الأذكار وما يُعرف بالقدود، إلخ، فالانبساط فيها يكون للّحن، ولا يعدو صوت الإنسان فيه سوى آلةٍ من آلات التخت أو الفرقة.

أمّا مسألة ارتباط الكلام بالسينما، فأنا أختلف معك فيه بالمرّة، ورجوعاً لتمثيلك: أبوها راضي، هل تعلم أنّ هذا الكلام ما كان إلّا عكساً لقضيّةٍ اشتهرت في ذلك الزمان، فلا يمكن لامرأةٍ الزواج دون بطاقة هويّة، وبطاقة الهويّة تخرج في سنّ 16، فبادر القوم لتكبير سنّ بناتهم لاستخراج البطاقة اللازمة لتمام عقد الزواج، فكان القضاة أحياناً يرفضون عمليّة التسنين تلك، فيُقال أنّ أهل مركزٍ تجمهروا على محكمةٍ هاتفين، أبوها راضي، يا جناب القاضي! فخرجت هذه الأغنية بهذا اللحن البديع. فحين مرّ الزمن، ونُسِيَت أسباب الكلام، بقي اللحن وظُنّ في الكلام التفاهة. لكنّي حين سمعتها لأوّل مرّةٍ فهمت أنّ بها نقداً اجتماعيّاً لظاهرةٍ ما، ولمّا بحثت وجدتُ الخبر.

وحسبك في انتقاء الكلام ما كان ينتقيه القوم لقصائدهم، فإنّك تطرَب لنسختي الشيخ أبو العلا لوحقّك أنت المنى والطلب، لكنّك تطرب إذا استمعت لنسخة مشيان بعد نسخة بيضافون للبيت أتاك العذول، إلخ، الذي نسيه في بيضافون، فأنت تطرب للكلام كما تطرب للنغم. كذلك اختيار أهل العراق للشعر في مقامهم، فإذا قلتَ لي عن البستات، أعود لنفس الجواب السابق، قد يكون ربّيتك صغيرون حسن، من حيث الكلام، مناسبةً لعصرهم، ومهمّةً، من أدرانا؟ حتّى لو كتب بعض القوم تحذلقاً أنّ الكلام هابط، فمن أدرانا أنّ هذا غالب الرأي؟ وما سبب غناء هذه بعد القصائد؟

وهنا سأمثّل أنا بقصيدة غيري على السلوان قادر، فإنّك إذا سمعتها من الشيخ أبو العلا في تسجيليه، ثمّ تسمعها من صاحب أو صاحبة تسجيل ليف الغرام، مكان لي في الغرام، فتفسير المؤدّي لها أنّ الغرام له ليفة، تنقح في الجتّة، فإنّ طربك، رغم جودة اللحن، أو التقليد، منقوص، بل تؤلم أذناك سوء الألفاظ والمخارج أحياناً، أمّا إذا سمعتها عند أهل المقام في العراق أو عند وصلات الصنعانيّين في اليمن أو أهل المألوف في ربوع المغرب العربيّ فإنّك تطرب لها كلاماً ونغماً كما تطرب للشيخ أبو العلا أو النقشبندي، لا كصاحب أو صاحبة ليف الغرام، والقصد هنا في حال القصائد الفصيحة رغم جودة اللحن.

والعكس أيضاً صحيح، فانظر في زماننا هذا كم يُغنّى أعذب شعر بن الفارض والحلّج وبن عربي، انظر كيف يغنّى بمنطق المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب، فلا أنت تطرب لشعرٍ ولا لنغم، رغم جودة الشعر.

أمّا عن تركيز القوم في الكلام دون النغم، وكون الكلام يبقى على الألسن دون النغم، وهو المروِّج للسلعة، فهذا ببساطةٍ لتحوّل الأمر كلّه إلى سلعة، وفي حال النغم، فكلّه معلَّب، وقد تدهور النغم أكثر من الكلام، فلمّا وجد الناس في نغمهم يأساً، ذهبوا للكلام، فهو مفهومٌ بدوارجهم، يناسب حال التجهيل المتعمَّد، وإلّا فأغلبه لا يقلّ سفهاً عن أغلب النغم في زماننا، ورغم أنّ الغناء الحشديّ المعتمِد على الكلمة، أشبه بالهتاف، موجودٌ في كلّ زمانٍ ومكان، إلّا أنّي أراه زائداً عن الحدّ في زماننا هذا، وعند قومنا أكثر من غيرهم، ولا قوّة إلّا لصاحب القوّة.

ودعني أختم كلامي هذا بالتمثيل بنفسي، ليس اغترارً بها، فأنا أعلم أنّي لست أجاوز في سلّم النغم درجة، ولست أدري من أسرار الأدب حرفاً، إنّما هي تجربة محاولٍ متواضعٍ لمحاولة إيصال الأثر النفسيّ بين الكلمة والنغمة.

فإنّني كلّما هممتُ بوضع نغمٍ لشعرٍ ما، فالمراد إيصال هذا المعنى بالنغم، وأحسبه مراد أغلب من فعل هذا في كلّ الأقطار، لو احتّج محتجٌّ أنّ القصائد كانت تُنشد ارتجالاً، أقول أنّ البحث عن إيصال المعنى بالنغم قد يكون ارتجالاً أيضاً، وإن من الشعر ما ارتُجِل في آنه انفعالاً للحظةٍ أو أمرٍ ما، وتذخر كتب الأدب بصادق الحكايات عن هذا. فوجود أكثر من لحنٍ لشعرٍ لا يعني أنّ المعنى وصل في لحنٍ دون آخر، أبداً، فقد يصل المعنى لأكثر من فهمٍ حسب اللحظة وسائر الانفعالات النفسيّة المؤثّرة على المؤدّي، بل والمتلقّي أيضاً، وأعود لك بالتمثيل على حكايةٍ معي، لحّنتُ أتدري لماذا أصبح الديك، ضمن رباعيّات الخيّام، في السيكاه، ولم أكن سمعت نسختها الصبا في العراق، حين سمعتها، ورغم وضعي لحناً لنفس الكلام، إلّا أنّ جلّ ما دار بفكري اختلاف طريقة إيصال المعنى عند المرتجِلِ على نغمة الصبا، أو المثبِّتِ في نغمة الأوج، أعني نفسي، بينما لم تأتِ أبداً فكرة المقارنة بين لحنين.

أقول: أحاول إيصال كلّ المعاني، وعدم ضمور الألفاظ في النغم، ورغم أولويّة النغم، بحكم أنّه الحديث المضاف إلى القديم، فإنّ الرغبة في جلاء كلّ مستعصٍ في النصّ لا بدّ منه في سلامة اللحن.

وفي مرّةٍ قرّرت تلحين كلامٍ رأيته تافهاً، لم أستطع إلّا تنزيل الكلام على اللحن تنزيلا، بل تعاملت مع الكلام بصفته المقطعيّة وأضحى الصوت لا يجاوز في العزف أيّ آلة، بل قد يقلّ لاتّساع بعض الآلات في المساحة.

سأروي لكّ قصّةً أخيرةً مع الأستاذ عليم قاسموف المبجّل الذي عرضتَ له مثلاً، سمع لي لحناً، وأراد الاشتراك فيه بالغناء هو وابنته القديرة فرگانة، وحين شرعنا في العمل، طلب منّي أن يفهم النصّ برمّته، ثمّ طلب منّي أن يفهمه كلمةً كلمة، كان هذا درساً جديداً لي في النغم، نعم، أطرب لسماع ما لا أفهم كلامه، لكنّي إذا فهمت الكلام، فالنغم يأخذ بُعداً آخر، فإمّا أن أُعامل الصوت آلةً ضمن فريق العزف، أو حتّى دون فريق عزفٍ لو كان الأداء صوتيّاً دون آلة، أو أعمل العمل كلّه بشقّيه.

اعلم أنّي أحبّ سماع النغم دون كلام، وأطرب للّحن بصفته النغميّة حتّى لو مع الكلام، وأضع الأنغام مستقلّةً أو مصحوبةً بكلام، وأجد متعةً في الحالين.

أختم كما بدأت، أشكر دأب بحثك، وأنا لست بمطاولٍ لك في هذا، فلك فيه السبق، لكنّي أريدك أن تبين ما قد يخفى على غيرك، فيتمّ بهذا مرادك ومرادنا جميعا.

الشعر مُطرِبٌ، والنغم مُطرِبٌ، واتّحادهما مُطرِبٌ، وكلٌّ يطرَب لما تيسّر له.

والسلام.

May 21, 2016

توحّد | مصطفى سعيد ومجموعة أصيل

في حوار له عن الحفظ الموسيقي، يقول مصطفى سعيد إن “الموسيقى فن مسموع، فكيف ستكتب ما هو مسموع، مهما استطاع الشخص أن يصف لوحة لن يستطيع أن يصفها كما هي مرسومة“. لو صحّت الجملة السابقة، فهل من الجائز قراءة العمل الموسيقي نفسه باعتباره معارضة موسيقية لكتابة سابقة؟ أعني هل ذِكر إلهام اللحن مهم لقراءة تلك الموسيقى أم معيق له؟ ألا تشكّل تلك الإحالة إلى مقال توحّد نوعًا من تقييد آفاق التفسير أو توجيه السامع لقراءة العمل الموسيقي بوصفه محض ترجمة لمقال سياسي؟ أرّقني هذا السؤال قبل الاستماع وبعده.

رغم عنوانه الذي يحيلنا إلى مرض يعيق التواصل بين من يعانيه ومحيطه، لا يعجز توحّد عن التواصل مع المستمع بأي حال، بل يصيبه بحالة توحّد مع نغماته. هو إذاً عمل يناقض التعريف المذكور للتوحّد بوصفه “ضعف(اً) في التفاعل الاجتماعي وضعف(اً) في التواصل“1. في كثير من المواضع والجمل اللحنية يمارس العمل استيلاءً كاملًا على ذهن المستمع، وهو استحواذ مميز لكل تلك الموسيقى المقامية القائمة على سلطنة سميعها، استيلاء يستلزم أن يرفق بتحذير “يُحظر الاستماع على قادة المركبات وركاب المترو والحافلات“.

تنتظم وحدات العمل في أربع دورات متتابعة مرتبة ترتيبًا ألفبائيًا أ– عشيران2 ب– ارتجال جـ – شوبش د– نحن، ووحدة أخيرة منفصلة – متصلة بالدورة السابقة عليها (نحن) وهي تعتمد تسلسلًا نغميًا قائماً على البعد المتوسط الطبيعي أو مسافة ثلاثة أرباع النغمة حسب التعبير الشائع.

يفتتح العمل بدولاب من مقام العشيران، والدولاب هو قطعة استهلالية اعتاد موسيقيو عصر النهضة عزفها بدلًا من المقدمة الحالية. البدء بالدولاب هو تأطير لعمل الارتجال لمنع الخروج عن سَيْر اللحن. يتكرر هذا الدولاب ثلاث مرات، مرة سادة – بتعبير الآلاتية – ومرة مزخرفًا ومرة أخيرة بارتجال الآلات عليه. في المرات الثلاث يلتزم الدولاب بالسير التقليدي من بطيء إلى متسارع مع القفلة المفاجئة الممهدة للارتجال اللاحق. يتخلل الثلاث إعادات ارتجالان، أولهما للناي من مقام البياتي وثانيهما للعود من مقام العشيران، ويتغير الدولاب في كل مرة تأثرًا بالارتجال السابق عليه. يسود العزف في دورة العشيران شجنٌ خفيٌ تارة ومعلَنٌ تارة، حتى لو اختبأ في بعض الأحيان في صخب الإيقاع وتداخُل عزف الآلات معًا.

 

الدورة الثانية من دورات العمل هي ارتجال. الارتجال هنا ليس فرديًا حرًا فقط، بل ارتجال جماعي تجاوبي ما بين الآلات جميعها أيضًا، “وإذا كانت ميزة التخت التقليدي هي التمكين من تنفيذ التناغم الأفقي3 فإن عمل فرقة أصيل يعتمد، خصوصاً في هذا العمل، على تناغم أفقي واضح“. هذا التناغم الأفقي4، قائم على الغَزَل بين الآلات مختلفة الأجناس وبعضها البعض. تبدأ الدورة بارتجال منفرد من القانون يمارس غسان سحاب فيه كل الألعاب الممكنة باستدعاء أصوات حادة مختلفة غير شائعة لكسر أفق توقعات السامع، ثم يدخل العود لاحقًا في حوار مرتجل مع القانون. في هذا الحوار يستدعي العود حالة الحنين بتشابهه مع ألحان قديمة يُلمح العزف لها دون الوقوع في فخ اقتباسها، ثم تنتهي تلك الدورة بارتجال جماعي من الآلات كلها على دورة إيقاعية كبيرة ميزانها ١٢٨، وهو ميزان مبتكر مركب من وحدات إيقاعية أصغر وأكثر شيوعًا. في هذا الارتجال تمارس الآلات رحلة صوتية باستدعاء كل أطياف الشرق الممكنة، ويتذكر المستمع موسيقى المتوسط والتُرك والكرد والفرس وصولًا للهند وما ورائها، ثم تنهي الآلات رحلتها بعزف الطنبور البغدادي في رش رشيق راقص قبل القفلة المفاجئة، كأنه إعلان للعودة إلى مستقر الرحلة.

الدورة الثالثة هي الأكثر فرحًا واندماجًا وبهجة كما يوحي اسمها، “شوبش يا حبايب على العريس” تلك الجملة الموروثة من الأفراح القديمة، حين كان آلاتية التخت يدعون بها ضيوف العُرس لمنح النقوط، تبدأ تلك الدورة بتقسيم راقص من الناي من مقام الرصد – مش الراست كما يصحح لنا صانع العمل في كتيب الأسطوانة – ليمهد هذا التقسيم للشوبش اللاحق الذي يبدأه إيقاع تحية العريس التقليدية ليجيبه التخت ثم تدخل دورة الشوبش في علاقة حرة للرقص بين الآلات وبعضها. تُذكّر هذه الرقصة بزفة الولي في الموالد الشعبية أكثر مما تذكر بالرقص البلدي السينمائي التجاري، وتخرج كل آلة من عزلتها لتندمج مع اللحن في غَزْل جميل مليئ بالفرح كثوب ملون، ثم تنتهي بقفلة مفاجئة، والقفلة المفاجئة – الحراقة بالتعبير المصري الدارج – متكررة بشكل ما في وحدات العمل كله.

الدورة الأخيرة من العمل هي إعلان الهوية، اسمها نحن، تبدأ بارتجال حر من آلات الإيقاع. كل آلات الإيقاع المتاحة، دف ورق ودُمبك بل وحتى شوكات رنانة وجرس نحاسي. ارتجال يتحاور فيه العازفون مع آلاتهم ليخرجوا منها أصواتًا غير شائعة، وهو فعل استلزم التنبيه التالي في الكتيب المرفق: “لا يوجد أي تدخل كهربائي أو صناعي في هذا العمل“. هذا الارتجال الحر يستمر جماعيًا لتخرج الآلات أصواتاً غريبة تشنجية تحسب معها إنك في جلسة علاج نفسي جماعي. كل آلة في عالمها المنفصل متوحّدة مع عازفها الهَيمان في ملكوته كما يقول المصريون، وبرغم هذا الانفصال ما بين الآلات أثناء العزف فكلها منتظمة معًا، وهو أمر يُحسب لصانعي العمل. كل آلة تتحاور مع نفسها وتتحدى قدراتها الخاصة دون أن تَنشُز عن رفاقها أو تصارع الآلات المصاحبة. تنتهي تلك الدورة بعودة الآلات إلى حوار جماعي مع رأس المجموعة، العود، في علاقة خاصة ليست رئاسية تسلطية بل تشاورية تبادلية. يعود العود في أول الحوار لعزف لحن مثير للشجن والحنين، يذكر بحواره السابق المرتجل مع القانون في الدورة الثانية من العمل، لكن هذا الحوار سرعان ما يقطعه صخب الآلات جميعها.

يختتم العمل بدورة منفصلة متصلة مع الدورة السابقة سُمّيت: بعد متوسط طبيعي. يمكن تبسيط الدورة نظريًا كسلم مُلون يعتمد مسافة ثلاثة الأرباع – بحسب التسمية الشائعة التي يختلف معها صانع العمل ويعتبرها خاطئة – في هذا السلم تتكرر ثمان نغمات مع جواب النغمة الأولى لا سبع نغمات مثل المقامات العادية. أظن أن هذه الدورة الختامية هي الأكثر جرأة، وهي رغم جرأتها غير منفرة لسامعها الذي لا يحس بأي تركيب غريب على أذنه. هي جرأة تُحسب لصانع العمل بلا شك، ومحاولة نظرية أصيلة من المبكر الحكم عليها من لحن واحد، أتمنى أن يكررها مصطفى سعيد مستقبلاً باستخدام درجات ركوز مختلفة.

الإلهام والإسناد
ما هي علاقة العمل بالمقال المذكور غير العنوان المشترك؟ كان هذا سؤالي الأول قبل الاستماع، أما بعده فقد حصلت على إجابة غير شافية. أظن أن مصطفى سعيد لديه هاجس الإحالة والانتساب ككل مجدد أصيل. هاجس الإسناد بتعبير آخر. يتشارك العمل مع المقال هاجس البحث عن الأجمل والأفضل لا الأسهل، هذا صحيح، لكن آفاق عمل موسيقي تختلف تماماً عن مقال سياسي. غاية سؤالي هو تخوفي الشخصي من إغلاق آفاق التفسير أمام هذا العمل الموسيقي المميز.

على سبيل المثال، مارست لعبة قائمة على الارتجال أثناء الاستماع فأعدت ترتيب الوحدات المُكونة للعمل. وضعت دولاب العشيران المزخرف محل الشوبش واستمعت، ووضعت الشوبش قبل الارتجال الجماعي المنفرد على ميزان ١٢٨ وأنصتّ، كانت لعبتي محاولة لبعثرة العمل وإعادة ترتيبه، لكني لاحظت أن تقسيم العمل لم يكن اعتباطيًا أبدًا ولا وليد عفو الخاطر، فإذا كان من الممكن الاستماع لدواليب العشيران المتتالية مع حذف ارتجالي الناي والقانون، أو الاستماع إلى بعد متوسط طبيعي وحده، فلا يمكن الاستماع إلى شوبش دون الاستماع إلى علاقة رقص حرة التالية له. هذا أفق لعب محتمل لا يُغلق آفاق أخرى محتملة، ولا يغلق الباب أمام ارتجالات شتى ستحدث آجلًا أم عاجلًا خلال عزف العمل على جمهور متلق واعٍ ومحاورة العازفين مع ذلك الجمهور.

تلك الموسيقى في توحّد تحمل سلطنة شجية خاصة، أخشى عليها من تقييد آفاق الاستماع بتفسير متعسف، فحتى لو كان الملهم لتلك الموسيقى مقالٌ سياسي لا ينبغي اعتبارها مجرد ترجمة مباشرة له.

من النواة
يمثل توحّد عملًا فنيًا ناضجًا في مسيرة مصطفى سعيد ومجموعة أصيل، يقوم على أنواع مختلفة من الارتجال الحر الفردي والجماعي5، ويصعب فهمه دون الرجوع لخلفية مصطفى سعيد ومجموعة أصيل.

“تأسّست مجموعة أصيل عام ٢٠٠٣؛ بهدف أداء موسيقى عربيّة جديدة معاصرة على مبدأ التطوير من الداخل؛ أي الاعتماد على التراث الموجود لدينا، ليس لإعادة أدائه أو نسخ القوالب أو الضروب، وإنّما لصنع الجديد مطوّراً منه“. التطوير من الداخل هو ما جعل المجموعة تعتمد على آلات مقامية بالأساس، إما عربية مثل العود (بمختلف طبقاته) والناي والقانون والسنطور، أو مُعربة مثل عائلة الكمان (الصغير والوسط والكبير). دون الالتجاء إلى آلات أخرى عاجزة عن آداء المقامات الشرق–عربية، تلجأ المجموعة لتوسعة آفاق الآلات المتاحة نفسها، فلا تستعير الجيتار الإسباني أو جيتار القرار (البايس) طالما من الممكن عزف نفس الطبقتين من عودين مختلفي الحجم، وهي تجربة مختلفة عن “محاولات العصرنة التي نفذت من عشرات السنين وكانت مرادفًا للتغريب“.
يكتب مصطفى سعيد، الباحث المتميز ومن المعدودين في حقل الموسيقى العربية، والذي يتطور بخطى منتظمة حتى لو شابها بعض العثرات، في كتاب إلى القصبجي:

“لا أعرف ماذا كان قولي وفعلي لو كنت في عصرك، لكنّي أخالفك الرأي، وأشاركك حبّ التجربة. أريد مثلك لموسيقانا أن تتطوّر، لكنّي أريدها أن تتطوّر من نواتها.”

التطور من نواة الموسيقى العربية ذاتها هو مفتاح مهم لقراءة كل أعمال مصطفى سعيد، وخاصة عمله الأخير توحّد، الأنضج من سابقيه، إذ يتضح فيه إلى أي درجة يكون مصطفى سعيد مقيداً في أعماله المغناة مقارنة بمقطوعاته. في أغانيه السياسية يهبط مصطفى سعيد بفنه لمستوى خطابي مباشر، وفي رباعيات الخيام اختار ترجمة أحمد الصافي النجفي الصعبة حتى على القارئ ليصنع منها عملًا لم يكن موفقاً في نظري، على العكس من اسطوانة أصيل التي كانت خطوة جيدة في تطوره لكنها بقيت مدرسية ملتزمة بالقوالب المعروفة. في توحّد يتواصل مصطفى سعيد أكثر فأكثر مع صوته الداخلي ولحنه الذاتي ويبدو ذلك واضحًا في عدم اختيار أي قالب موسيقي معروف لمكونات العمل – باستثناء الدولاب – ولذلك فمن حقه علينا أن ننصت لهذا العمل بتأن واهتمام، في غرفة مغلقة وباستخدام سماعات أذن جيدة، فهو ليس كغيره من الموسيقى التي نشغلها كخلفية مصاحبة لأحداث حياتنا اليومية. حق مصطفى سعيد وزملاؤه علينا أن نستمع جيدًا إلى هذا العمل، قبل أن نحكم عليه من عنوانه.

ياسر عبدالله

نشر في معازف

«مجموعة أصيل»: «التوحَّد» بالتجريب!

يقول الناشط المصري علاء عبد الفتّاح في مقال نشره من داخل سجنه إنّ «التوحد صورة بلاغيّة لحالنا». كلام دفع الموسيقي المصري مصطفى سعيد الذي تعرّف إلى علاء في السجن إلى تأليف موسيقى مستوحاة منه تحت عنوان «توحّد». بين توحّد علاء في سجنه، وتوحّد مصطفى في السجن الكبير، محاكاة لألم واحد يطوف الدول العربية. ألم التناقض بين غير المبالين بما تؤول إليه حال بلادهم، وآخرين مصابين بأمل التغيير وبالتوحّد، فقدوا القدرة على التواصل مع أبناء بلدهم، كما القدرة على الانصياع.

لكن «المنهج الضمني» كما يصفه عبد الفتاح الذي تعتمده الأنظمة الحاكمة عُرفاً، يجعل هؤلاء الأخيرين منبوذين ومعزولين، لا يَفهَمون من حولهم ولا يُفهِمون. ماذا تريد مجموعة «أصيل» للموسيقى العربيّة الفُصحى المعاصرة بعرضِها «توحّد» الذي تقدّمه اليوم في بيروت بالتنسيق مع «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية»؟ تلك المجموعة التي أسّسها مصطفى سعيد (عود) عام 2003 بنواة تخت شرقي تضمّ إلى جانبه عازف القانون اللبناني غسان سحاب (إشراف تنفيذي أيضاً)، وعازف الناي المصري محمد عنتر، قبل أن تتوسّع لتضم اليوم 12 موسيقياً. إلى جانب الأسماء المذكورة، تتألف الفرقة من خليل البابا (كمان صغير ــ فيولينا)، وعبد الرضا قبيسي (طنبور بغدادي وطنبور اسطنبولي)، وعلي الحوت (رقّ ــ إيقاع)، وجوس تورنبُل (دُمبَك ودهُلّة ــ إيقاع)، وبلال بيطار (سنطور)، وفرح قدّور (عود صغير)، وأنطون حوّاط (كمان كبير)، ورضا بيطار (كمان وسط)، وفراس عنداري (عود كبير). بعد ألبومَي «رباعيّات الخيّام» (ترجمة أحمد الصافي النجفي ــ 2008)، و«أصيل» في 2009، وحفلات عدّة أهمّها وآخرها «البُردة» في 2014 (شعر تميم البرغوثي)، تقدّم «أصيل» الليلة «توحّد». إنّه عمل يضم قوالب موسيقية تقليدية منها «الدولاب» و«التّقاسيم». هو تجريب موسيقي لا يكتفي بما كانت الفرقة تقدّمه سابقاً من تجديد من الداخل وتطوير لقوالب موسيقيّة أصيلة. هل هو تجريب شرقي؟ لا. فالتجريب الموسيقي الذي نشهده منذ منتصف القرن العشرين يعتمد أساساً على نقل أصوات الحياة، والصناعة، والتكنولوجيا إلى المسرح. ليس هذا تجريب «أصيل»، لأنّها تذهب بالمغامرة إلى أقصاها وأقساها. تنقل تلك الأصوات أيضاً، لكنّها تحملها بعنف شديد، وتُسقطها من علوٍّ مرتفع قاتل في وسط الجمل النغميّة. إسقاط يحاكي القصف الممنهج والعشوائي اليوم في بلادنا. تُشعرنا الفرقة بأنّ تجريبها مكتوب علينا، كأنّه واقعنا، فتعطي الآلات أصواتاً متفلّتة أحياناً، وغير متزامنة أحياناً أخرى، وفجأةً يعمّ ذاك الانسجام التّام، بعيداً من الانصهار الموسيقيّ. هكذا نحن اليوم. نتخبّط ما بين أصيل وهجينٍ، نريد ولا نريد، نجرّب كثيراً ونعمل قليلاً. ومنّا أكثريّة صامتة مخيفة، وأخرى مغامرة عابثة، وقلّة كـ «أصيل» ما زالت تجرّب، لكنّها تُشعِرنا بأنّها تعلم ماذا تفعل.
يسأل علاء عبد الفتاح في مقاله: «ما الأسهل؟» التّماشي مع الظّلم وتدريب «المتوحّدين» على قبوله، أم إقناع المجتمع باستحالة الحياة معه؟ هنا، نتساءل مع «أصيل»: ما هو دور الموسيقى في وجودنا المهدَّد؟ هل يسهم موسيقيّونا في تهديد وجودنا أم في إنقاذنا، عبر توجّهاتهم الانتاجيّة وعبر مصادر تمويلهم وعبر خضوعهم أو تمرّدهم على العرض والطلب في أسواق الموسيقى العالميّة؟ يبدو أنّ «أصيل» اختارت البقاء والرّفض ونهل الجديد من التاريخ الثقافي والحضاري. اختارت مغامرة معالجة التوحّد والأمل بالتواصل والتمرّد. لقد اختارت الصعب. أما الوقت الّذي أنضج تجربة «أصيل» فهو نفسه الذي سيُفهمنا قيمة هذه التجربة/ المغامرة.

أريج أبو حرب

نشر في الأخبار

أمسية من العود المنفرد مع مصطفى سعيد للموسيقى العربية المعاصرة

موعدكم مع أمسية من العود المنفرد مع مصطفى سعيد في الموسيقى العربية المعاصرة على خشبة مسرح أبراج يوم الرابع من أكتوبر تشرين الأول ٢٠١٨ الساعة ٨ مساء.

 

Mustafa Sadi will be giving a solo Oud concert on the 4th of Ocotober in Beirut, on Abraj Theater, on the 4th of October 2018 at 8pm.

 

 

أمسية يوم ٢٥ تشرين الأول مع الفنان مصطفى سعيد في مهرجان العود السنوي في دورته الأولى على مسرح أبراج

مسرح أبراج يقدم ..

مهرجان العود السنوي

في دورته الأولى

الأمسية الأولى يقدمها الفنان مصطفى سعيد

يوم ٢٥ أكتوبر تشرين الأول

على مسرح أبراج، فرن الشباك

في الساعة الثامنة مساء

والدعوة عامة

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | Developed by: Mathew Osama