في حديثه عن الموسيقى العربية الكلاسيكية أو "الفصحى"، دائما ما يتكرر عند الموسيقي المعروف مصطفى سعيد تعبير "التطوير من الداخل". يضعنا هذا أمام تساؤل: ما هو هذا الداخل؟ وكيف نستطيع تحديده، كمستمعين لمقطوعة سعيد الأخيرة "توحد" التي يطلقها اليوم مع فرقته "أصيل"؟
يقول سعيد في حديث لـ"المدن" أن الموسيقى العربية التي يحاول "تطويرها"، توقفت منذ الثلث الثاني من القرن العشرين، واستمرارها الوحيد كان في بعض أشكال الإنشاد الديني. يمكن إذاً وصف "الداخل" الذي يريد سعيد تطوير الموسيقى العربية من خلاله بأنه "داخل متوقف" أو "متجمّد" موسيقياً منذ أزمنة متعددة. حاول سعيد الإمساك بهذا "الداخل" وبدأ بإزالة الجليد المتراكم عنه في مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية (AMAR) التي يديرها منذ العام 2010. تحوي المؤسسة أكثر من عشرة آلاف صوت عتيق و"باهت" كان محفوظا في اسطوانات، منذ بداية التسجيل الصوتي أواخر القرن التاسع عشر وحتى الثلث الثاني من القرن الماضي. يحاول سعيد معالجة تلك الأصوات وإعادة قراءتها من خلال معدات تتطور بشكل متسارع. وصار في إمكان ذلك الصوت العتيق ان يظهر اليوم بطريقة جديدة وبأن يعاد إحياؤه.
تبدأ مقطوعة "توحّد" من ذلك المكان العتيق وتحديدا من "دولاب عشيران" الذي يحيل الى موسيقى القرن التاسع عشر. يبدأ سعيد من تلك النغمات التقليدية التي تشكل الصوت الداخلي لأعماله بشكل عام، ثم يأخذنا منها الى أمكنة أخرى يختلط فيها الأليف و"القديم" مع الإرتجالي و"الجديد". لا يمكن إذاً الوصول الى "جديد" من دون الخروج من مكان قديم يعتبر شرط وجوده.
ولا يمكن كذلك تحديد "الداخل" الذي ينطلق منه سعيد من دون تحديد "الخارج" الذي يريد الوصول اليه. ينقسم هذا "الخارج"، وهو متطور حكما، الى نوعين: الأول نصل إليه انطلاقا من الداخل أو النواة وينطبق هذا على عمله "توحد"، أما الثاني فهو ذلك الخارج الذي نصل إليه عن طريق استعارة أساليب موسيقى دارجة وغير مرتبطة مع "النواة"، مثل الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية أو أنماط الروك أو الجاز وغيرها. ينطبق هذا على الأعمال الموسيقية العربية المهيمنة منذ الثلاثينيات، والتي تضم أعمال أم كلثوم وعبد الحليم وغيرهما.
هكذا يعتبر عمل سعيد نقداً واضحاً للنوع الثاني الذي يصفه بـ"موسيقى السلطة" والتي بدأت من خلال اتفاق الموسيقيين العرب خلال الثلاثينات على منهجية الوصول الى التطور عبر مسارات الموسيقى الأوروبية. لا ينفصل هذا عن سيطرة فكر الحداثة يومها على نخب العالم العربي، والذي يقول إن حاضرنا نحن العرب ليس سوى "ماضي" أوروبا، وإن كان علينا الوصول الى واقع جديد ومتطور يجب علينا سلوك خطى الأوروبيين في السابق والتي أوصلتهم الى ما هم عليه.
يضع هذا سعيد في تعارض مع السائد اليوم. فالموسيقى العربية التي يتحدث عنها لم تعد موجودة وقد أصبحت مختفية رغم محاولات توثيقها. أطلق سعيد على مقطوعته اسم "توحّد"، مستعيراً عنوان مقالة سياسية للناشط المصري علاء عبد الفتاح. يقول عبد الفتاح في المقالة: "نعيش كلنا وفقًا لمنظومة معقدة ومركبة ومتغيرة، لا يحتاج أغلبنا لتعلم تفاصيلها في البيت أو المدرسة، لكن يقف أغلب المتعايشين مع التوحد أمامها عاجزين؛ فتزيد عزلتهم إلا إذا بذل أحدهم الجهد المطلوب لتعليمهم المنهج الضمني"... يتماهى سعيد مع توصيف عبد الفتاح للتوحد، فهو اليوم يعيش تلك العزلة، رافضاً الدخول في الدارج. ينتمي سعيد الى مكان مهمّش ومتعارض حكماً مع "المنهج الضمني" السائد والمهيمن.
لكن على الرغم من تعارضه مع المهيمن عربياً، فإن سعيد على توافق مع حركة عالمية أكبر. يقول مثلاً: "هناك موسيقى فصحى في أوروبا وفي الهند وإيران ووسط آسيا والمغرب وأنا أستغرب إلغاءها عندنا منذ زمن طويل". كما يقر سعيد بأن الإعتراف الأوروبي بأعماله أكبر، والجمهور الأوروبي "معتاد على سماع أصوات متعددة"، على عكسنا نحن العاجزين سوى عن اللحاق بصوت واحد دارج في زمن معين. هكذا في محاولة سعيد، تكريس موسيقى عربية فصحى "أصيلة" يبدو منشدّاً الى سائد عالمي كي لا نقول أوروبي، أعاد الإعتراف بموسيقى الشعوب وأساليب تطورها الداخلية والتي تحاول البحث عن ذلك الأصل أو تلك النواة التي على كل شعب من شعوب ما بعد الإستعمار الإنطلاق منها لصناعة شخصية متفرّدة يرتكز عليها، عوضاً عن "نواة" أوروبية ومركزية يدور حولها.
يقع عمل "توحّد" بين هذه التناقضات كلها. فهو يتحدث مع جمهور عربي لم يعد معتادا على تلك الموسيقى، وفي حال قرر سماع العمل يبدو أن عليه بذل مجهود مضاعف لفهم المسارات التي يحاول أخذها. لكن ما يبدو ضرورياً قوله في النهاية أن العمل أقل ما يقال عنه بأنه يستحق أن نخطو نحوه خطوه اضافية ستمكننا حكماً من اكتشاف كنز موسيقي لعازف استثنائي ونادر اليوم في الموسيقى العربية.
* من نغم مصطفى سعيد وأداء مجموعة أصيل للموسيقى الفُصحى العربيّة المعاصرة، يُطلق إصدار «توحُّد» يوم الخميس 12 مايو/أيار 2016 في حفلة موسيقية في "مسرح المدينة" في بيروت، وقد سُجل في لقطة واحدة كمقطوعة تتجلّى بلا انقطاع لمدة 48 دقيقة، يؤديها 12 عازفاً مع آلاتهم الـ15.
تتكون مجموعة "أصيل" من محمّد عنتر، عبد الرضا قبيسي، مصطفى سعيد، خليل البابا، علي الحوت، غسّان سحّاب، جُس تُرْنْبُل، عماد حشيشو، بلال بيطار، فرح قدّور، رضا بيطار، فراس العنداري، عازفين على 15 آلة بما في ذلك عود، عود كبير، عود صغير، كمان، كمان وسـط، كمان كبيـر، قانون، سـنطور، طنبـور اسطنبولي، طنبـور بغـدادي، ناي (طبقة سفرجة، وطبقة جواب نصور) رّق، طبلـة بلـدي،ُ دمَبك،ُ دمَبـك ُزرخـانـة، عصي إيقاعيــة مختلفــة، شـوك دوزان وصحـن الجـرس النحـاس.
حسن الساحلي