طرائق النغم وشواهد استيعاب تصنيفه من بداية القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي (1-2)

حكايات أهل النغم ودلالاتها من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
 مُصْطَفَى سَعِيد

عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في الموقع الإلكتروني لكيوبوست -أبو ظبي- ، يونيو٢٠٢٢

منذ ما يزيد على أربعة قرون، أصبح النغم في أُمتنا مجرد ترفيهٍ حسِّيٍّ في حال مصاحبة أغلب الأمر، وإن استقل فهو لمناسبة أو طقس قلّما كان روحياً، فقدَ النغم في أمتنا حينها مكانةً وصل إليها منذ بزوغ شمس الحضارة الإسلامية في القرن الأول الهجري واستمر عليها زيادة على تسعة قرون؛ فمنذ صدر الحضارة الإسلامية كان النغم مظهراً من مظاهر العمران، ومكوناً من مكونات الازدهار الحضاري وعنصراً من عناصر آداب الأمة؛ مكوناً يعبر عن الألسن والأعراق والأديان فتندمج فيه بسهولة ويُسر سائر الشعوب التي دخلت تحت مظلة هذه الحضارة الناشئة، فتعاقبت الدول جمعاً وتفريقاً وبقي النغم شاهداً على وحدة حال هذه الأمة مهما فرَّقتها الألسن والحدود.

تروي لنا كتب التراث حكايات أهل النغم ومكانة الموسيقى في المجتمع، فنرى انعكاس حال المجتمع من صعود وهبوط، من تطور وتدهور؛ كانعكاس الصورة في المرآة، وليس الغريب أن تستفيض الكتب في سرد حال النغم، إنما الأغرب أننا نجد أكثر الروايات عن أهل النغم في كتب الأدب، أضعافاً مضاعفةً عن الكتب التنظيرية في علم الموسيقى. مثلاً؛ تفسير هذا أن النغم كان حتى وقت قريب مظهراً من مظاهر الأدب والحضارة، وقد يكون هذا مرجعاً بأن أوروبا حين أرادت النهضة؛ مُنشئةً النظم العلمية الحديثة، مستفيدةً من الحضارة التي سبقتها، وضعت دراسة النغم في كليات الآداب مع الشعر والرواية والنقد والتاريخ.. إلى آخره.

في حكايات كتب الأقدمين عن أهل النغم، يكشف ستر مظاهر اجتماعية كثيرة، عن السماع، إجازته والترخيص فيه، وعن اللهو بالسماع أو السماع المُطلق، وعن التنظير والآلات اختلافاً بين عصر وعصر، وبين مكانَين في عصر واحد.

 

كتاب-الأغاني-طبعة-دار-صادر

 

دون إطالةٍ في المقدمات، لنبدأ هذه الحكايات بقصتَين متقاربتَين زمنياً مطلع القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي.. القصتان وردتا في كتاب الأغاني؛ كيف يكشف لنا عن تصنيف الغناء في زمن دولة بني مروان؟ كيف يفرِّق أهل النغم بين غناء الفصحاء وغناء العامة؛ أي الموسيقى الكلاسيكية (الفصيحة) وتلك التي ترتبط بمناسبات أو حِرَف (العامية)؟

:نترك القارئ مع أبي الفرج وكتابه الأغاني وحديثه عن رحلة معبد إلى دمشق؛ إجابةً لطلب الوليد بن يزيد إشخاصه إليه

المجلد الأول، ص22

“خبر معبد مع رجلٍ لم يستحسن غناءه:

قال إسحاق (يعني إسحاق بن إبراهيم الموصلي): وقال معبد: أرسل إليَّ الوليد بن يزيد فأُشْخِصْتُ إليه. فبينما أنا يوماً في بعض حمامات الشام إذ دخل عليَّ رجلٌ له هيبة ومعه غلمانٌ له، فأطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب.

فاستدبرته حيث يراني ويسمع منِّي ثمّ ترنّمتُ فالتفت إليَّ، وقال للغلمان: قدّموا إليه جميع ما هاهنا؛ فصار جميع ما كان بين يدَيه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله، فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شيئاً إلا فعله، ثم وضع النبيذ فجعلتُ لا آتي بحسنٍ إلا خرجتُ إلى ما هو أحسن منه؛ وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى منّي.. فلمَّا طالَ عليه أمري، قال: يا غلام شيخنا.

فأدخلوا عليه رجلاً يغنّي غناء العوام والسوقة، فغنّاه:

سلورٌ في القِدْر ويلي علوه   جاء القِطّ أكله ويلي علوه

 - السلور: السمك الجري بلغة أهل الشام

قال: فجعل صاحب المنزل يصفّق ويضرب برجله طرباً وسروراً. قال: ثم غنّاه:

وَتَرْمِينِي حَبِيبةُ بِالدُراقِنْ       وَتَحْسَبُنِي حَبِيبةُ لا أَراها

  • الدراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشام

  • فكاد يخرج من جلده طرباً. قال (أي معبد): فانسللت منهم، فانصرفت ولم يعلم بي. فما رأيت مثل ذلك اليوم غناءً أضيع ولا شيخاً أجهل!”

لم يعترض معبد على عموم هذا النوع من النغم، إنما اعترض على وجوده في غير موضعه، واستغرب رجلاً ذا يسارٍ وهيبةٍ أن يقيم مجلس غناءٍ فلا يطرب للنغم الفصيح بل أكثر من هذا لم يفهمه واستلذّ النغم العامّيّ عليه، واستغرب أن يتحول مجلس السماع الذي يغلب عليه حال النشوة الهادئة بالطرب إلى صياحٍ وجَلَبةٍ قريبةٍ في زماننا لما يُعرف بالـ(ترانس) الناجم عن سماع الموجات القوية والصخب مثل تلك الناجمة عن مكبرات الصوت والأجهزة الإلكترونية والتكنو.

 

png-clipart-laptop-loudspeaker-subwoofer-computer-speakers-audio-power-speakers-electronics-computer

 

والحال أن معبد يدرك تماماً فوارق أنواع النغم، ويعرف أن لكل مقامٍ مقالاً، ويستنكر في زمانه على مَن لا يدرك هذه الفوارق.

نكمل في الحلقة القادمة بالمشيئة الفكرة مع مَثل آخر من نفس المصدر عن حكاية على لسان حُنَين، وهو موسيقي وشاعر مجد في كلا الفنَّين.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad