سكينة بنت الحسين.. أم أهل النغم (1)

حكايات أهل النغم ودلالاتها من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
 مُصْطَفَى سَعِيد

عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في الموقع الإلكتروني لكيوبوست -أبو ظبي- ، يوليو٢٠٢٢

ورد في كثير من المصنفات في النغم أن سكينة بنت الحسين، هي أول مَن جمع أهل النغم في مجلس واحد في ضيافتها، وأن استضافتها لهم كانت تستمر أسابيع؛ بل وشهوراً أحياناً، وأنهم كانوا يحتكمون إليها، وأنها كانت تطلب منهم المناظرة في ما بينهم للاتفاق على أصلح الغناء، والاتفاق على تعريف واحد لأصوله؛ نغماً وإيقاعاً، فلا تختلط المفاهيم.

توقُّد ذهن هذه السيدة الشريفة في قومها بل والمبجَّلة عند سائر الأمة، فهي حفيدة الرسول، لم يقتصر على البراعة في النقد ورقي الذوق في سائر فنون الآداب، وهذا ما سيُفصَّل؛ بل تعداه لفهم أن الاتفاق على المفاهيم بين أهل الآداب والفنون سيمهِّد السبيل لتسارع هذه النهضة الناشئة لهذه الدولة الناشئة؛ فالأمم أصبحت أُمة واحدة، وتقاليد النغم البراعم اجتمعت ونمت فكونت تقليداً واسعاً أصَّل فيها كل هذه البراعم فجعلها كأنها أفرع له، فالمطلوب إذن أن يتكلم أهل كل فن في ما يخص فنَّهم وأدبهم بمصطلحات يفهمها الجميع من أقصى الدولة إلى أقصاها، وكان الحجاز، وتحديداً منزل سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، هذا المنزل بالمدينة المنورة هو المكان الذي اتَّحدت فيه مفاهيم النغم بين أهله مكوِّناً هذا النظام النغمي والإيقاعي القائم إلى زماننا هذا.

 

كتاب-الأغاني-طبعة-دار-صادر

 

ولنترك مصنفات النغم إلى حكاية من كتاب الأغاني لاجتماع موسيقيٍّ طويلٍ من هذه الاجتماعات؛ حيث اجتمع قطبان من أقطاب النغم حينئذ، ابن سُريج وعزّة الميلاء.

لنترك مقدمة الحكاية المذكورة في المجلد الرابع، ص180: من طبعة المطبعة الحجرية؛ حيث طرائف أشعب، إلى المطلوب منها:

خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين

ينتهي سند الحكاية عند مصعب الزبيري من أكثر من مصدرٍ نعرض عن ذكرها، ومن شاء الرجوع للأصل:

دملج سكينة في يده:

أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالاً، فرمت به إليه، ثم قالت: أقسمت عليك لمّا أدخلته في يدك ففعل ذلك.

استدعاء عزّة الميلاء

ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزّة فأقرئها منِّي السلام وأعلمها أن عبيداً عندنا فلتأتنا متفضلة بالزيارة. فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدَّثوا باقي ليلتهم في مذاهب الغناء وأخبار المغنين والشعراء. ثم أمرت عبيداً (أي ابن سُريج) وأشعب، فخرجا فناما في حجرة مواليها.

مجلس غناء

فلمَّا أصبحت هُيئ لهم غداؤهم، وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريباً منها مع أشعب ومواليها، وقعدت هي مع عزّة؛ وخاصة جواريها، فلمَّا فرغوا من الغداء قالت: يا عزّ (أي عزّة الميلاء) إن رأيتِ أن تغنينا فافعلي. قالت: إي وعيشك. فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي:

حيّيت من طللٍ تقادم عهده      أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

فقال ابن سريج: أحسنتِ والله يا عزّة! وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته إلى عزّة، وقالت: صيري هذا في يدك ففعلت. ثم قالت لعبيد: هات غنّنا. فقال: حسبكِ ما سمعتِ البارحة. فقالت: لا بد أن تغنّينا في كلّ يومٍ لحناً. فلمَّا رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنَّى:

قالت من أنت على ذكرٍ فقلت لها      أنا الذي ساقه للحين مقدار

قد حان منك فلا تبعد بك الدار        بينٌ وفي البين للمتبول إضرار

ثم قالت لعزة في اليوم الثاني: غنِّي فغنَّت لحنها في شعر الحارث بن خالد -ولابن محرز فيه لحن- ولحن عزة أحسنهما:

وقرّت بها عيني وقد كنت قبلها    كثير البكاء مشفقاً من صدودها

وبشرة خودٍ مثل تمثال بيعةٍ        تظلّ النصارى حوله يوم عيدها

قال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسناً ولا طيباً.

ثم قالت لابن سريج: هات فاندفع يغني:

أرقت فلم أنم طرباً    وبتّ مسهداً نصبا

لطيف أحبّ خلق الله      إنساناً وإن غضبا

ولكن صرّمت حبلي        فأمسى الحبل منقضبا

فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك. وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته.

ثم قالت لعزة: إذا شئت. ودعت لها بحلة ولابن سريج بمثلها. فانصرفت عزة وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعاً.

هذا اجتماعٌ لأشهر مغنٍّ في مكّة وأشهر مغنيات المدينة في بيت من كان الناس ينادونها: يا بنت رسول الله.

 

ولننتقل من اجتماعٍ صغيرٍ لأهل النغم في الحجاز إلى اجتماعٍ آخر وفد فيه حنين، أشهر أهل النغم في العراق، على أحذق ثلاثةٍ من أهل النغم في الحجاز، وكيف أن الاجتماع في منزل امرأةٍ لم يقتصر عليها وأهل بيتها وخلصائها، بل شمل جمعاً كبيراً من سكان المدينة المنورة حينئذ:

المجلد الأول، ص298:

استقدمه ابن سريج والغريض ومعبد إلى الحجاز، فقدم وغنى فازدحم الناس: (ينتهي السند عند عبيد بن حنين الحيريّ، حفيد صاحب الحكاية): كان المغنّون في عصر جدّي أربعة نفرٍ؛ ثلاثة بالحجاز، وهو وحده بالعراق، والذين بالحجاز: ابن سريج والغريض ومعبد، فكان يبلغهم أن جدّي حنيناً قد غنَّى في هذا الشعر:

هلّا بكيت على الشباب الذاهب    وكففت عن ذمّ المشيب الآئب

هذا وربّ مسوفين سقيتهم    من خمر بابل لذّةً للشارب

بكروا عليّ بسحرةٍ فصبحتهم     من ذات كوبٍ مثل قعب الحالب

بزجاجةٍ ملء اليدين كأنّها    قنديل فصحٍ في كنيسة راهب

قال: فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدّي، وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شرٍّ منَّا؛ لنا أخٌ بالعراق ونحن بالحجاز، لا نزوره ولا نستزيره. فكتبوا إليه، ووجَّهوا إليه نفقةً وكتبوا يقولون: نحن ثلاثةٌ وأنت وحدك، فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه فلم يُرَ يومٌ كان أكثر حشراً ولا جمعاً من يومئذ، ودخلوا فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إليّ فقال له ابن سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك، فقال: مالي من ذلك شيء وعدلوا إلى منزل سكينة.

فلمَّا دخلوا إليها أذنت للناس إذناً فغصَّت الدار بهم وصعدوا فوق السطح وأمرت لهم

بالأطعمة، فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا جدّي حنيناً أن يغنِّيهم صوته الذي أوله:

هلا بكيت على الشباب الذاهب.. فغنّاهم إياه بعد أن قال لهم: ابدؤوا أنتم، فقالوا: ما كنَّا لنتقدمك ولا نغنِّي قبلك حتى نسمع هذا الصوت، فغنَّاهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتاً، فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه.

هذا في أول قرنٍ من الإسلام، فأي مجتمعٍ هذا؟! وأية مكانةٍ للمرأة؟! وأين هذا من قومٍ في زماننا يظنون أنفسهم حراس الشرع وأتباع سُنة السلف الصالح؟!

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad