إلى الحكاية برواية أبي الفرج بإسنادٍ يرجع إليه من شاء في المصنّف الأصليّ ونذكر آخره:
المجلّد الأوّل، ص294
“خرج إلى حمص وغنّى بها فلم يستطعم أهلها غناؤه:
وقال حمّاد (يقصد حمّاد بن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ) في خبره قال أبي حدثني بعض أهل العلم بالغناء عن حنين، قال:
خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها، وأرتاد من أستفيد منه شيئاً فسألت عن الفتيان بها وأين يجتمعون فقيل لي: عليك بالحمّامات، فإنّهم يجتمعون بها إذا أصبحوا فجئت إلى أحدها فدخلته، فإذا فيه جماعةٌ منهم، فأنست وانبسطت، وأخبرتهم أني غريبٌ ثمّ خرجوا وخرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم، فلمّا قعدنا أُتينا بالطعام فأكلنا، وأُتينا بالشراب فشربنا،
فقلت لهم: هل لكم في مغنٍّ يغنّيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟ قلت: أنا لكم به، هاتوا عوداً.
فأُتيتُ به، فابتدأت في هنيّات أبي عبّاد معبد، فكأنما غنّيت للحيطان لا فكهوا لغنائي ولا سُرُّوا به، فقلتُ: ثقل عليهم غناء معبد لكثرة عمله وشدّته وصعوبة مذهبه، فأخذت في غناء الغريض، فإذا هو عندهم كلا شيءٍ وغنيت خفائف ابن سريج وأهزاج حكم والأغاني الّتي لي، وأجتهد في أن يفهموا فلم يتحرّك من القوم أحدٌ، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا، فقلت في نفسي: أرى أنّي سأُفتضح اليوم بأبي منبهٍ فضيحةً لم يُفتضح أحدٌ قطّ مثلها.
فبينما نحن كذلك، إذ جاء أبو منبهٍ وإذا هو شيخٌ عليه خفان أحمران كأنه جمّالٌ فوثبوا جميعاً إليه وسلّموا عليه، وقالوا: يا أبا منبه أبطأت علينا، وقدّموا له الطعام، وسقوه أقداحاً وخنِستُ أنا حتى صرتُ كلا شيءٍ خوفاً منه، فأخذ العود ثمّ اندفع يغنّي:
طَرِبَ البَحْرُ فاعْبُرِي يا سَفِينة لا تَشُقِّي عَلَى رِجالِ المَدِينة
فأقبل القوم يصفّقون ويطربون ويشربون، ثمّ أخذ في نحو هذا من الغناء، فقلتُ في نفسي: أنتم هاهنا! لئن أصبحت سالماً لا أمسيتُ في هذه البلدة. فلمّا أصبحت شددتُ رحلي على ناقتي، واحتقبت ركوةً من شرابٍ ورحلت متوجّهاً إلى الحيرة وقلت:
لَيْتَ شِعْرِي مَتَى تَخُبُّ بِي النا قةُ بَيْنَ السَدِيرِ والصَنِّينِ
مُحْقِباً رَكْوَةً وَخُبْزَ رُقاقٍ وَبُقُولاً وَقِطْعةً مِنْ نُونِ
لَسْتُ أَبْغِي زاداً سِواها مِنَ الشا مِ وَحَسْبِي عِلالةٌ تَكْفِينِي
فَإذا أُبْتُ سالِماً قُلْتُ سُحْقاً وَبِعاداً لِمَعْشَرٍ فارَقُونِي”
هنا نتعامل مع حالةٍ أُخرى، صحيحٌ أنّها نفس الفترة زمناً، لكنّ حمص ليست دار الخلافة، كما مع معبد في دمشق، حُنين أكثر ترحالاً، وأقلّ شهرةً في الغناء من معبد، ولنا موعدٌ آخر مع قصّته مع خالدٍ القسريّ.
يدرك حُنين من البداية أنّه يجرّب، وأنّه خالط سكّان المدينة حتّى يصل لعرض نغمه، والكسب منه بمخالطة أثرياء البلدة. ظنّ حُنين أنّه أقلّ جودةً من أهل النغم في البلدة، حاول إرضاءهم بالثقيل ثمّ الأخفّ فالأخفّ روماً لإطرابهم، فلم يفهموه، ظنّ أنّه سيفتضح ويظهر ضعفه حين يأتي المغنّي الّذي اعتادوا سماعه.
لم يذكر حُنين إلّا زيّ هذا المغنّي الّذي يشبه زيّ الجمّالين، لكنّه ذكر أنّه ضاربٌ بالعود، وأنّ الشعر الّذي يغنّيه هذا الرجل ركيكٌ لكنّه فصيح، ولعلّ ركاكة الشعر ما دعاهُ أن يروي الأبيات الّتي نظمها شارحاً حال ارتحاله من البلدة في نهاية الحكاية.
والحال أنّ هذا الرجل المغنّي يبدو أنّه يغنّي غناءً عامّيّاً لكنّه أرقى درجةً من سابقه، فهو ضاربٌ بالعود، يغنّي شعراً لا لحن فيه من حيث اللغة، فلغته فصيحةٌ ليست دارجة.