الطبيعة إذا خاطبت الطبيعة

حكايات أهل النغم ودلالاتها من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
 مُصْطَفَى سَعِيد

عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في الموقع الإلكتروني لكيوبوست -أبو ظبي- ، أكتوبر٢٠٢٢

لعل سهولة استجابة الأنفس للجمال في ذاك الزمن كانت لقلة ما يغشاها من مؤثرات خارجية تمنع وصول الجمال إلى أعمق أعماق النفس.. أما في هذا الزمن وانتشار الآلة والصخب فقلما تسمع الأذن الصوت من طبيعته إلى طبيعة النفس

للآداب والفنون تأثير نفسي إيجابي على كل متعرِّض لها بالسمع أو النظر؛ بل ذهب بعض علماء الاجتماع، أولهم ابن خلدون، إلى أن ما هو مسموع أقرب إلى التأثير في النفس من المنظور؛ لأن المسموع لا يلزمه مادة، فإنما يسمع السامع ما يخرج عن الحلق أو الآلة، فالمستلَذ به الموجة المسموعة لا الحلق أو الآلة المسموع منها، على عكس المنظور إليه، فهو تشكيل لما هو ملموس بالضرورة.

لهذا المؤثِّر عند ضعاف النفوس ردة فعل مختلفة؛ بسبب إفراطهم في التريُّب والشك في كل ما حولهم، وهنا نرى أبا الفرج يصف هذا بـ”الإفراط في الغيرة”، وإنما قال هذا لأن هذا السلوك خرج من سليمان بن عبدالملك بن مروان، خليفة المسلمين في دولة بني مروان أواخر القرن الأول الهجري. ولنصحب أبا الفرج في هذه الحكاية فلعلها نواة منطق من وجد منطقاً في تحريم السماع:

المجلد الأول، ص597:

“ذكر ابن الكلبي عن أبي مسكين ولقيط، أن سليمان كتب بإحصاء من في المدينة من المخنثين ليعرفهم فيوفد عليه من يختاره للوفادة، فظن الوالي أنه يريد الخصاء فخصاهم.

أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني، قال حدثني محمد بن سلام، قال حدثني ابن جعدبة، ونسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخراز عن المديني عن ابن جعدبة واللفظ له: أن الذي هاج سليمان بن عبدالملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من المخنثين أنه كان مستلقياً على فراشه في الليل وجارية له إلى جانبه وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فصلان من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفاً، وكان في عسكره رجل، يقال له سمير الأيلي، يغني. فلم يفكِّر سليمان في غنائه شغلاً بها وإقبالاً عليها، وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل حتى طال ذلك عليه فحول سليمان وجهه عنها مغضباً، ثم عاد إلى ما كان مشغولاً عن فهمه بها، فسمع سميراً يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة: صوت:

محجوبة سمعَت صوتي فأرّقها  من آخر الليل حتى شفّها السهر

تدني على جيدها ثنتي معصفرةٍ         والحلي منها على لبّاتها خصر

في ليلة النصف ما يدري مضاجعها     أوجهها عنده أبهى أم القمر

– ويروى:

أوجهها ما يرى أم وجهها القمر

لو خليت لمشت نحوي على قدمٍ       تكاد من رقّةٍ للمشي تنفطر

– الغناء لسمير الأيلي رملٌ بالبنصر عن حبشٍ. وأخبرني ذكاء وجه الرزّة أنه سمع فيه لحناً للدلال من الثقيل الأول.

فلم يشكك سليمان أن الذي بها مما سمعت وأنها تهوى سميراً، فوجَّه من وقته من أحضره وحبسه ودعا لها بسيف ونطع، وقال: والله لتصدقني أو لأضربن عنقكِ! قالت: سلني عما تريد. قال: أخبريني عما بينك وبين هذا الرجل. قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط وأنا جاريةٌ منشئي الحجاز، ومن هناك حملت إليك ووالله ما أعرف بهذه البلاد أحداً سواك. فرقّ لها وأحضر الرجل فسأله وتلطَّف له في المسألة فلم يجد بينه وبينها سبيلاً، ولم تطب نفسه بتخليته سويّاً فخصاه وكتب في المخنثين بمثل ذلك. هذه الرواية الصحيحة”.

فها نحن أمام رأس هرم السلطة في دولة فتية واسعة الأطراف يخرج عقد ثقته بنفسه وزيادة تريُّبه وشكّه في هذا المغنِّي المسكين أو الجندي الهاوي للغناء.


كتاب-الأغاني-طبعة-دار-صادر


المجلد الثاني، ص891:

“أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال حدثني جرير بن أحمد بن أبي دواد، قال حدثني أخي عن أبي قال: كنت أتجنب الغناء وأطعن على أهله وأذم لهجهم به. فوجَّه المعتصم إلي عند خروجه من مدينة السلام: الحق بي، فلحقت به بباب الشماسية ومعي غلامي زنقطة، فوجدته قد ركب الزورق وسمعت عنده صوتاً أذهلني حتى سقط سوطي من يدي ولم أشعر به ثم احتجت، وقد أعنق بي برذوني، أن أكفه بسوطي. فقلت لغلامي: هات سوطك، فقال: سقط والله من يدي لمّا سمعت هذا الغناء. فغلبني الضحك حتى بان في وجهي. ودخلت على المعتصم بتلك الحال. فلمّا رآني قال لي: ما يضحكك يا أبا عبدالله؟ فحدثته. فقال: أتتوب الآن من الطعن علينا في السماع فقلت له: قبل ذلك من كان يغنيك، قال: عمّي إبراهيم كان يغنّيني، ثم قال: أعده يا عمّ ليسمعه أبو عبدالله فإني أعلم أنه لا يدع مذهبه. فقلت: بلى والله لأدعنه في هذا ولا لمتك عليه. فقال: أما إذ كانت توبته على يديك يا عمّ فلقد فزت بفخرها وعدلت برجل ضخم عن رأيه إلى شأننا”.

هذا صوت إبراهيم بن المهدي الذي سبق الحديث عنه، جعل رجلاً من أكثر المتشددين يعود عن رأيه، ولنختم مقالنا بصوتٍ غناه إبراهيم كان له أطيب الأثر في نفس سامعيه:

المجلد الثاني، ص895، حسن ترجيعه في لحن:

أخبرني أبو الحسن علي بن هارون أيضاً قال حدثني أبي قال حدثني عبيدالله بن عبدالله وأبو عبدالله الهشامي، قالا: كان إبراهيم بن المهدي إذا غنَّى لحنه:

هل تطمسون من السماء نجومها       بأكفّكم أو تسترون هلالها

فبلغ إلى قوله:

جبريل بلّغها النبيّ فقالها

هزّ حلقه فيه ورجّعه ترجيعاً تتزلزل منه الأرض.

فهذا فعل الجمال في الأنفس السوية، ومهما غشيت النفس غشاوة التشدد والتطرف في الفكر، إذا رجعت إلى فطرتها استجابت لمؤثر الجمال والإبداع؛ فإبداع المخلوق من إبداع الخالق، ولعل تقديم السمع على البصر في كتاب الله خير قرينة على إثبات نظرية ابن خلدون أن الجمال المنبعث من النغم أقرب للوصول للنفس من المنظور؛ لأنه لا يلزم مادة إنما هي موجة تنتقل بالفراغ بنسب حسابية مستحسنة تستلذ بسماعها الأنفس. فلعل سهولة استجابة الأنفس للجمال في ذاك الزمن كانت لقلة ما يغشاها من مؤثرات خارجية تمنع وصول الجمال إلى أعمق أعماق النفس. أما في هذا الزمن، وانتشار الآلة والصخب، فقلما تسمع الأذن الصوت من طبيعته إلى طبيعة النفس؛ بل غدت تسمعه عبر آلة مكبرة للصوت أو غير مكبرة له، ولو سمع الناس الصوت على طبيعته لقلّ مَن ينكر السماع؛ لأن الطبيعة إذا خاطبت الطبيعة برز منها الجمال وألقته في أعماق النفس، فاستقبلته النفس أرحب استقبال، كيف لا وهذه النفس هي أحسن تقويم.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad