الحرف يقتل، والكلمة تحيي

تراث النغم
مُصْطَفَى سَعِيد
عازف وباحث في علم النغم
المقال منشور في مجلة تُراث - أبو ظبي- العدد ٢٥٣ نوفمبر ٢٠٢٠.

يُقال إنّ العلم إذا ازدهر في أُمّةٍ زادت فيها كتب المتون، وقلّت فيها كتب الشروح. أمّا إذا بان العلم والعمل، كما حدث في أمّتنا منذ بضعة قرون، ابتكرت طبقة "العلماء" طرقًا للشرح وتسميات لها، فمِن شرح كذا إلى حاشية كذا إلى تقريرٍ على حاشية كذا لشرح كذا على كذا! وهلمّ جرّه! ما نستطيع تعريفه بالتصنيف من أجل التصنيف، فتجد المصنّفات تحوي تعريفات وتسمياتٍ وأمثلةٍ لا تمتّ لأيّ واقع مراسٍ بصِلة، والنتيجة، كره طلّاب العلم طلبه وأصبح العلم ثقيلاً على طالبه، ففسد العلم والعمل.

 في النغم، لا يوجد كثير حواشٍ على شروح أو تقارير على تلك الحواشي، لكنّ طبقة المنظّرين وضعوا حولهم سوراً من التسميات والتعريفات للأنغام والضروب يلقون منها سهام التجهيل والازدراء والتعالي على ممارسي النغم، فذهب أهل النغم بعيداً عن قلعة التنظير تلك اتّقاء لسهامهم تلك، فلم يُعرف للنغم صحيح علمٍ ولا صادق عمل.

 سُزنَك أم رست شرقي؟ حجازكار أم شاهناز؟ طاهر بوسليك أم محيّر بوسليك؟ جرجُنا أم سماعي خفيف؟ دويَك أم مصمودي خفيف؟

 قد يعتبر قارئٌ هذا السطر طلاسم يبحث أو لا يبحث عن فكّها، وقد يعتبر آخرٌ توجيه هذه الأسئلة جهلاً من طارحها، أو يهزأ ثالثٌ من تهجّي الحروف! لا بأس، وكلّ الاحترام والتقدير للجميع.

فإذا طلبتُ ممّن يحتجّ أنّ الراست الشرقيّ غير السُزنَك، وطلبتُ منه الارتجال على المقامين يوماً، ثمّ طلبتُ منه إعادة الارتجال على المقامين يوماً آخر، فأغلب المحتجّين لن يكون بين ارتجالهم في اليوم الأوّل والثاني كبير فرق، هذا لأنّه ركّز على مسار الأنغام في المقامات واعتبرها منزّلةً لا يُعبث فيها، فأضحى الارتجال عنده كأنّما لحنٌ ثابتٌ لا يختلف إلّا في بعض قسمة الزمن فيه، وحتّى هذا لا نجد فيه كبير فرقٍ عند أكثرهم تمسّكاً بالحرف.

وإذا سألتَ عن أكثر حفظة تنويع ضروب الإيقاع عن علاقة الإيقاع بقسمة النغمة على اللحن، لن يحتجّ أغلبهم بكثير حجّة، أو لن يكون له، على الأرجح، علمٌ بأوزان الكلام التي هي أصل أغلب تلك الضروب التي يتباهى بحفظها.

 أذكر حين كنتُ أدرّس في أروقة الجامعات، كنتُ أُعاين من أغلب الطلّاب مللاً من دروس الموسيقى المقاميّة بل وبعد إنهاءهم درساً ما، يهزؤون بما جاء فيه، ويهزؤون بما حفظوا من مساراتٍ وضروب وأعمال، وكان بعض المدرّسين إذا عاينوا منهم هذه السخرية، أغلظوا عليهم القول وعاقبوهم أحياناً.

حاولتُ إحداث بعض تغييرٍ، لا أعرف إلى أيّ مدىً نجحتُ، وكان هذا بدعوة الدارسين لترك الحرف، ومحاولة التصرّف والتأويل، ومن ثمّ الابتكار. ووجدتُ النتيجة أحياناً أنّ المنبوذ أصبح مطلوباً، وأنّ الطالب الذي نفر ممّا يحفظ، أصبح يطلب مزيد حفظٍ ليجد مادّةً تكون نواةً لابتكاره هو، فيمسي النغم سلوى طالبه بعد أن كان سلوته.

 هل يعلم القابع في قلعة التنظير أنّ ما يسمّيه العرب بيّاتي ويسمّيه الترك عشّاقاً ويسمّيه الفرس شور، كان اسمه منذ بضعة قرون دوگاه؟ وقبل بضعة قرون قبلها كان اسمه سبّابة في مجرى الوسطى؟

أعلم أنّ منظّراً سيقول: عشّاق الأتراك غير البيّاتي! يا سيدي أعلم! لكن هل يكفر المرء لو عزف مسار البيّاتي داخل عشّاق الأتراك؟

لقد وُصِم هذا النغم بالرجعيّة والجمود، وما هو بذلك، فهل يستحسِن نغمٌ إذا أُدّي أكثر من مرّةٍ أن تختلف كلّ مرّةٍ عن الأُخرى، وهل نغمٌ به مساحة حرّيّةٍ وإبداعٍ وتنويعٍ وارتجالٍ، حتّى على اللحن الثابت سابق التلحين أكثر من نغمنا المقاميّ؟

المتمسّكون بالأسماء جعلوا من النغم تثبيتاً ليس في أصله، فأخرجوه عن جوهره. جوهر النغم المقاميّ، فصيحه وعامّيه وشعبيه، التجدّد والتنوّع في الأعمال سابقة التلحين، وضرورة تجدّد واختلاف الألحان في الأعمال المرتجلة، أمّا التسميات والتنظير، فيفترض أنّها للعون على إدراك الجوهر، فإن خرجت عن هذا الغرض، فهي عبءٌ على كلّ نغمةٍ تنطلق من ناطقٍ أو آلة.

دعوا المظهر وتمسّكوا بالجوهر، انبذوا الحرف وأحيوا الكلمة. الحرف يقتل، والكلمة تحيي.

Copyright ©2021 Mustafa Said. All Rights Reserved. | created by Dahlia Rashad