عمّي وعمّ عيالي، أخي صاحب المقام الرفيع والبحث المضني البديع السيّد الفاضل اسماً وصفةً،

ليتني أوتيت شطراً من فصاحتك فأعبّر عن مدى ما أريد تقديمه لك من التحيّة والاحترام والإجلال لدأب عملك ولك،

أمّا بعد:

فإنّي لم أكن لأراجع قولك في المقال المربوط لي من قِبَلك الكريم في رسالتك إلّا لسماع صوتٍ قرأ سطح الكتاب دون غوص، وفهم شكل السطر ورسمه دون مضمونه ووسمه. وعلى ما أنا فيه من تواضعٍ في إعمال منتهى البحث إذا ما قورنتُ بكم، إلّا أنّ مراجعتي هذه وإن لم تُفِد، فلا أحسبها تضرّ.

سيقول قائلٌ أنّ سبب اعتقادك قلّة أهمّيّة اللحن للكلام هو تخلّف الموسيقى تارةً، أو عدم اكتراث القوم بالكلام أُخرى، وسيقول بعض المتعصّبة لفنون الغالب أنّ موسيقاكم غناءيّةً صوتيّةً، وموسيقاهم غير هذا، لذا فالعنصر الغناءيّ هنا مهمٌّ، إلى آخر هذا الرأي السائد المعروف. رغم أنّ قياس الموجود المسجّل آليّاً وغناءيّاً بين التقليدين ليس بذاك!

أمّا الرأي عندي أنّ الأجدر أن نطرح الأمر من كلّ زواياه، فلو احتججتَ أنّ للأمر أجزاء أُخرى، فالقول عندي أنّ هذا ليس بيّناً عندك لننتظر تمام قولك. لذا فالضرورة عندي، وواجب الأخوّة، اقتضى عليّ هذه المراجعة. و سأحذو فيها حذوك بالتمثيلات نفسها وإن زِدتُ عليها أو أنقصتُ منها، فهي لضرورة المراجعة.

أقول أنّ الشعر مُلقاً أو مقروءٌ له لذّته، فنحن نحبّ سماع الشعر وقراءته. أمّا النغم، فليس لقراءته لذّة، فلذّة سماعه هي الغالبة، أمّا المتمرّسون في صنعة قراءة وكتابة النغم، فهم يستلذّون القراءة أحياناً لإعمالهم الفكر في السماع، وهذا ينطبق ضمناً على النغمة المحفوظة في ذهنك، فإنّك تستطيع أن تصوّر صورةً للحنٍ ما تنفيذاً دون سماعها واقعاً، أعني أهل الصنعة وإنتاج النغم والسمّيعة الحفظة أيضا. لكنّ لذّة قراءة الشعر في إعمال الخيال سمعاً وبصراً هي تمثيل الكلام على الواقع. لذا جاء اجتماع الكلمة والنغم ليكمل بعضها بعضا، ويصلوا فيها لكمال السماع ومن هذه النقطة سأضع القراءة وإعمال الخيال بها جانباً.

لا أختلف معك أنّ المضاف إليه قد يعلو درجةً على المضاف، فالنغمة إذا أُضيفت على اللحن، قُسِم الانتباه عند المتلقّي بل والمُلقي إلى شقّين لا شقّاً واحداً. أمّا مسألة عدم أهمّيّة الكلمة إذا كانت صنعة اللحن محكمةً فإنّي أدفع بأمور عدّةٍ فيها، وإن كنت أخالك لم تعنِ هذه الخلاصة التي قد يخلص إليها بعض القرّاء.

منذ بواكير الكتب بين أيدينا التي كُتِبَت عن النغم، واقتران الكلام فيها بيّنٌ، حتّى أنّ أمثلةً أتت بالغناء قبل الإسلام للتمثيل على مسألة الإقواء، وكيف أنّ الأعشى حين قالوا له أنّ في شعرك إقواءٌ لم يعرف الإقواء، فأتوا له في يثرب بمغنّيةٍ فلمّا مدّت آخر الأبيات، وضمّت القوافي في آخر بيتٍ رغم كسر كلّ الأبيات، فهم وقتها الشاعر معنى الإقواء.

وهناك المناظرة المحفوظة عند أبي الفرج بين إسحق الموصليّ، وإبراهيم بن المهديّ، في فكرة لزوم العروض للضرب أم قسمة العروض على أيّ إيقاع. ولم ينكر القوم أنّ في غناءهم صيحاتٌ وترنّمٌ خارج الشعر المغنّى، لكنّهم لم يهملوه.

وإن تقدّمت في الكتب ومدوّنات صفيّ الدين، فستجد الشعر المكتوب للّحن شعراً جذلاً جميلاً، وكذلك عند قطب الدين الشيرازيّ، فرغم أنّ صفيّ الدين لم يكتب ترنّم الصوت الذي دوّنه، كتب قطب الدين ترنّم القول، وإن عاينت شعره، هو شعرٌ جيّدٌ جدّاً من حيث الصياغة الأدبيّة.

ولن أتحدّث عن فتراتٍ أُخرى خشية الإطالة، بل سأنتقل رأساً إلى ما وضعتَ في مقالك من تمثيل: لمّا بدا يتثنّى، لماذا حكمنا عليه بعدم جودة الكلام؟ هو غير جيّدٍ بالنسبة لزماننا نحن، أو بالنسبة لما نقرأ من شعرٍ فألِفنا قراءته وأحببناه. لكن، لو عاينّنا أشعار تلك الفترة، أعني القرن الثاني والثالث عشر الهجريّ، ستجد كلّ الشعر، في شتّى القوالب، غزلاً ومديحاً حتّى المدائح النبويّة، في قوالب كالبلاليق والتخميس والمربّعات، إلخ، كذا كان ذوق القوم! فلماذا الحكم عليه بالسوء وإن لم يناسب عصرنا؟ هو أيضاً غير رائقٍ لي، أمّا من كتبوا في الشعر الفصيح على البحور، فكان من أجاد في هذه العصور، الإمام الشبراويّ مثلاً وليس تفرّداً، وإلى الآن يغنّى شعره.

أمّا تمثيلك الثاني عن ملا الكاسات فأقول:

كان لبعض الملحّنين ولعٌ بالغناء دون الآلة، فأنت إذا تناظرت مع لحن ملا الكاسات، خصوصاً لو أضفت للحنه خانته الرابعة الموجودة في تسجيل الشيخ أحمد صابر، فستكتشف دون وجه شكٍّ واحدٍ أنّه سماعي على النسق العربيّ الذي لا تختلف فيه الخانة الرابعة ضرباً عن باقي الخانات. فخانته الأولى ولازمته راست، ثمّ الثانية في حجاز الخامسةِ نزولاً إلى السيكاه من الثالثة في نغمة السُزنَك المتفرّعة عن الراست، فالثالثة من الكردان، والرابعة من السيكاه. وهو في قولبته يشبه السماعي الثقيل البيّاتي المعروف، وقد سمعتُ من الأستاذ عبد السلام أرسلان عن عزيز عثمان عن محمّد العقّاد الكبير عن محمّد عثمان أنّهم دأبوا على عزف هذا اللحن آليّاً مراراً حتّى جاءهم محمّد عثمان يوماً بهذا الكلام، الذي يتّضح ممّا لا شكّ فيه أنّه منزلٌ على اللحن. وقد نما إلينا مثلٌ آخر في الموسيقى العامّيّة، وهو لحنٌ جميلٌ لبليغ حمدي، بتحبّني والّا الهوى عمره ماطالك، قال أنّ اللحن وُجِد أوّلاً وأنّه نزّل عليه الكلام تنزيلاً، والكثير من هذه النماذج موجودةً حتّى في الأذكار وما يُعرف بالقدود، إلخ، فالانبساط فيها يكون للّحن، ولا يعدو صوت الإنسان فيه سوى آلةٍ من آلات التخت أو الفرقة.

أمّا مسألة ارتباط الكلام بالسينما، فأنا أختلف معك فيه بالمرّة، ورجوعاً لتمثيلك: أبوها راضي، هل تعلم أنّ هذا الكلام ما كان إلّا عكساً لقضيّةٍ اشتهرت في ذلك الزمان، فلا يمكن لامرأةٍ الزواج دون بطاقة هويّة، وبطاقة الهويّة تخرج في سنّ 16، فبادر القوم لتكبير سنّ بناتهم لاستخراج البطاقة اللازمة لتمام عقد الزواج، فكان القضاة أحياناً يرفضون عمليّة التسنين تلك، فيُقال أنّ أهل مركزٍ تجمهروا على محكمةٍ هاتفين، أبوها راضي، يا جناب القاضي! فخرجت هذه الأغنية بهذا اللحن البديع. فحين مرّ الزمن، ونُسِيَت أسباب الكلام، بقي اللحن وظُنّ في الكلام التفاهة. لكنّي حين سمعتها لأوّل مرّةٍ فهمت أنّ بها نقداً اجتماعيّاً لظاهرةٍ ما، ولمّا بحثت وجدتُ الخبر.

وحسبك في انتقاء الكلام ما كان ينتقيه القوم لقصائدهم، فإنّك تطرَب لنسختي الشيخ أبو العلا لوحقّك أنت المنى والطلب، لكنّك تطرب إذا استمعت لنسخة مشيان بعد نسخة بيضافون للبيت أتاك العذول، إلخ، الذي نسيه في بيضافون، فأنت تطرب للكلام كما تطرب للنغم. كذلك اختيار أهل العراق للشعر في مقامهم، فإذا قلتَ لي عن البستات، أعود لنفس الجواب السابق، قد يكون ربّيتك صغيرون حسن، من حيث الكلام، مناسبةً لعصرهم، ومهمّةً، من أدرانا؟ حتّى لو كتب بعض القوم تحذلقاً أنّ الكلام هابط، فمن أدرانا أنّ هذا غالب الرأي؟ وما سبب غناء هذه بعد القصائد؟

وهنا سأمثّل أنا بقصيدة غيري على السلوان قادر، فإنّك إذا سمعتها من الشيخ أبو العلا في تسجيليه، ثمّ تسمعها من صاحب أو صاحبة تسجيل ليف الغرام، مكان لي في الغرام، فتفسير المؤدّي لها أنّ الغرام له ليفة، تنقح في الجتّة، فإنّ طربك، رغم جودة اللحن، أو التقليد، منقوص، بل تؤلم أذناك سوء الألفاظ والمخارج أحياناً، أمّا إذا سمعتها عند أهل المقام في العراق أو عند وصلات الصنعانيّين في اليمن أو أهل المألوف في ربوع المغرب العربيّ فإنّك تطرب لها كلاماً ونغماً كما تطرب للشيخ أبو العلا أو النقشبندي، لا كصاحب أو صاحبة ليف الغرام، والقصد هنا في حال القصائد الفصيحة رغم جودة اللحن.

والعكس أيضاً صحيح، فانظر في زماننا هذا كم يُغنّى أعذب شعر بن الفارض والحلّج وبن عربي، انظر كيف يغنّى بمنطق المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب، فلا أنت تطرب لشعرٍ ولا لنغم، رغم جودة الشعر.

أمّا عن تركيز القوم في الكلام دون النغم، وكون الكلام يبقى على الألسن دون النغم، وهو المروِّج للسلعة، فهذا ببساطةٍ لتحوّل الأمر كلّه إلى سلعة، وفي حال النغم، فكلّه معلَّب، وقد تدهور النغم أكثر من الكلام، فلمّا وجد الناس في نغمهم يأساً، ذهبوا للكلام، فهو مفهومٌ بدوارجهم، يناسب حال التجهيل المتعمَّد، وإلّا فأغلبه لا يقلّ سفهاً عن أغلب النغم في زماننا، ورغم أنّ الغناء الحشديّ المعتمِد على الكلمة، أشبه بالهتاف، موجودٌ في كلّ زمانٍ ومكان، إلّا أنّي أراه زائداً عن الحدّ في زماننا هذا، وعند قومنا أكثر من غيرهم، ولا قوّة إلّا لصاحب القوّة.

ودعني أختم كلامي هذا بالتمثيل بنفسي، ليس اغترارً بها، فأنا أعلم أنّي لست أجاوز في سلّم النغم درجة، ولست أدري من أسرار الأدب حرفاً، إنّما هي تجربة محاولٍ متواضعٍ لمحاولة إيصال الأثر النفسيّ بين الكلمة والنغمة.

فإنّني كلّما هممتُ بوضع نغمٍ لشعرٍ ما، فالمراد إيصال هذا المعنى بالنغم، وأحسبه مراد أغلب من فعل هذا في كلّ الأقطار، لو احتّج محتجٌّ أنّ القصائد كانت تُنشد ارتجالاً، أقول أنّ البحث عن إيصال المعنى بالنغم قد يكون ارتجالاً أيضاً، وإن من الشعر ما ارتُجِل في آنه انفعالاً للحظةٍ أو أمرٍ ما، وتذخر كتب الأدب بصادق الحكايات عن هذا. فوجود أكثر من لحنٍ لشعرٍ لا يعني أنّ المعنى وصل في لحنٍ دون آخر، أبداً، فقد يصل المعنى لأكثر من فهمٍ حسب اللحظة وسائر الانفعالات النفسيّة المؤثّرة على المؤدّي، بل والمتلقّي أيضاً، وأعود لك بالتمثيل على حكايةٍ معي، لحّنتُ أتدري لماذا أصبح الديك، ضمن رباعيّات الخيّام، في السيكاه، ولم أكن سمعت نسختها الصبا في العراق، حين سمعتها، ورغم وضعي لحناً لنفس الكلام، إلّا أنّ جلّ ما دار بفكري اختلاف طريقة إيصال المعنى عند المرتجِلِ على نغمة الصبا، أو المثبِّتِ في نغمة الأوج، أعني نفسي، بينما لم تأتِ أبداً فكرة المقارنة بين لحنين.

أقول: أحاول إيصال كلّ المعاني، وعدم ضمور الألفاظ في النغم، ورغم أولويّة النغم، بحكم أنّه الحديث المضاف إلى القديم، فإنّ الرغبة في جلاء كلّ مستعصٍ في النصّ لا بدّ منه في سلامة اللحن.

وفي مرّةٍ قرّرت تلحين كلامٍ رأيته تافهاً، لم أستطع إلّا تنزيل الكلام على اللحن تنزيلا، بل تعاملت مع الكلام بصفته المقطعيّة وأضحى الصوت لا يجاوز في العزف أيّ آلة، بل قد يقلّ لاتّساع بعض الآلات في المساحة.

سأروي لكّ قصّةً أخيرةً مع الأستاذ عليم قاسموف المبجّل الذي عرضتَ له مثلاً، سمع لي لحناً، وأراد الاشتراك فيه بالغناء هو وابنته القديرة فرگانة، وحين شرعنا في العمل، طلب منّي أن يفهم النصّ برمّته، ثمّ طلب منّي أن يفهمه كلمةً كلمة، كان هذا درساً جديداً لي في النغم، نعم، أطرب لسماع ما لا أفهم كلامه، لكنّي إذا فهمت الكلام، فالنغم يأخذ بُعداً آخر، فإمّا أن أُعامل الصوت آلةً ضمن فريق العزف، أو حتّى دون فريق عزفٍ لو كان الأداء صوتيّاً دون آلة، أو أعمل العمل كلّه بشقّيه.

اعلم أنّي أحبّ سماع النغم دون كلام، وأطرب للّحن بصفته النغميّة حتّى لو مع الكلام، وأضع الأنغام مستقلّةً أو مصحوبةً بكلام، وأجد متعةً في الحالين.

أختم كما بدأت، أشكر دأب بحثك، وأنا لست بمطاولٍ لك في هذا، فلك فيه السبق، لكنّي أريدك أن تبين ما قد يخفى على غيرك، فيتمّ بهذا مرادك ومرادنا جميعا.

الشعر مُطرِبٌ، والنغم مُطرِبٌ، واتّحادهما مُطرِبٌ، وكلٌّ يطرَب لما تيسّر له.

والسلام.