سحر طه

لن يختلف اثنان، استمعا الى أسطوانة «بُردة» للموسيقي المصري مصطفى سعيد، والشاعر الشاب تميم البرغوثي، بأن فيها بعض غرابة على الأذن والوعي، بطريقة إيجابية، ولا بد من الشعور حتى لغير المتخصص، بأنها عمل ذو قيمة فنية عالية، لما حوته من عناصر مكتملة النصاب.

الإضاءة على كل أركان الأسطوانة التي جعلت لها مكانة رفيعة وتفرداً بين اصدارات هذا العصر، يتعذر علينا في هذه العجالة، كونها عملاً مترامي الأطراف، متشعب المسالك والمسافات، متعدد المكونات، إذ هي أشبه بعمل ملحمي بلا حدود ولا نهايات، لكننا نحاول هنا قدر الامكان الإضاءة (وليس تحليل) على المحتوى الموسيقي على وجه الخصوص.

ورغم أن «بُردة» البرغوثي، معارضة لـ«بردة» البوصيري، ومن ثم «نهج البردة» لشوقي، ورغم تباعد الأزمان بين البردة الأولى والثانية والثالثة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو الإنسان. وما يتعرض له من أحداث، تبدو شديدة الشبه، وكأنها تتكرر، رغم مرور الزمن، ورغم تغير الوجوه، والأمكنة، ولأن البرغوثي سليل ذاك الإنسان، أيضاً، ومرّ بظروف أشبه بما خَبره صاحبا البردتين السابقتين، والتي دفعته الى كتابة بردته في الألفية الثالثة، شارحاً ظروف كتابتها بالتفصيل في كتيب الاسطوانة المذكورة. لذا فإن حديثنا هنا بعيد من تناول القيمة الأدبية لشعر البرغوثي، كونه ليس من اختصاصنا.

كما ان سطورنا هنا ليست مقارنة، ولا مقاربة موسيقية بين «بردة» السنباطي لأم كلثوم، و»بردة» مصطفى سعيد، على أهمية تناول الأمر وضرورته، لكن في غير آن، بل من باب إبراز القيمة الموسيقية لهذا العمل، وماهية عناصر الابداع فيه وأسباب فرادته.

بالنسبة للموسيقى التي وضعها مصطفى سعيد لقصيدة «بُردة»، فإن مسألة الإبداع فيها تعدّ مرادفة للتجديد والابتكار، رغم ان البعض يستشعر فيها نبرة تراثية قديمة، فيما البعض الآخر يشعر بوجود شيء ما مختلف عن التراث، أو اصوات مغايرة، وغالباً ما يحمل إلينا ما لم نتوقعه، يسحب شيئاً ما في داخلنا وكأننا ننطلق معه الى عوالم فسيحة، والحقيقة ان كل من هؤلاء على حق، فالصيغ التي يعتمدها سعيد في صياغة ألحانه وبلورتها، تقوم على هذا المزيج المتماهي بين التراثي والحديث من دون الشعور بانفصال او حواجز بينهما بل ينسابان معاً في ليونة محببة، واضحة متأصلة في الأداء الصوتي والموسيقي، ومن ميزاته أنه يدهشنا، بما يمتلكه من وعي ومخزون من شتى مشارب الموسيقى العربية ومن بلدان مختلفة، فهو لم يتقوقع داخل موسيقى عصر النهضة المصرية، رغم نشأته عليها، بل انفتح على مدارس وخصوصيات موسيقى المغرب العربي ونهل من منابع «المقام العراقي» وتقاليد سلالمه الغريبة وغير المتداولة في بلدان أخرى، كما انفتح على ايقاعات تلك البلدان ايضاً، وهذا لم يأت إلا بعد دراسة وتمحيص وجهود سنوات من التمرس لكي تأتي ألحانه بهذا التنوع الرهيف وبالغ الفرادة، حدّ «الإدهاش» و»المفاجأة».

يغني الارتجالات فتعتقد لوهلة بأنك تسمع صوت أحد شيوخ اوائل القرن العشرين، المسلوب، الحامولي، عثمان، زكريا احمد..الخ. وما يلبث أن يفاجئك ببحة صوت أشبه بتقنيات مغني المقام العراقي محمد القبانجي او يوسف عمر، ومن ثم يوقظ الروح بإيقاع الجورجينا العراقي الخفيف الظل، ولا يترك للمستمع لمحة استراحة او ملل او خمول، فيتحول الى ايقاع مركب ومعقد هو «المحجّر»، الذي كان يستخدم في بعض الموشحات، ويستند اساساً على مقامات وسلالم عربية اصيلة «كالسيكاه» و»الجهاركاه» و»بنجكاه» وغيرها من السلالم التي هجرها ملحنو اليوم، لأسباب ليس أولها الجهل بالمقامات الشرقية، ولا آخرها استخدام آلات كهربائية غربية في التلحين.

ومن الممتع الاستماع الى «الوصلة»، التي حضرت مع لحن سعيد للبردة، وهي اختفت ايضاً مع ما اختفى من قوالب، خاصة التي كانت معتمدة في الحفلات، من دون التقيد الحرفي بل في إطار رؤيته هو لمفهوم الوصلة، حيث التصاعد اللحني وما يتطلبه الشعر والاحساس ببداية بطيئة الايقاع خفيضة النغم تمهيداً رويداً، لتصاعد المشاعر والطرب والوصول الى قمة السلطنة غناءً وموسيقى.

ولم تقتصر ثقافة سعيد الموسيقية وسعة اطلاعه على موسيقات عربية، بل وعلى أهمية فهم واستيعاب التمازج بين موسيقانا والموسيقى التركية والفارسية، والاستفادة منها بما يتلاءم وطبيعة تقاليدنا الموسيقية العربية، وإمكانات سعيد واسعة في هذا المجال كما أظهرت ألحانه.

ومصطفى سعيد، اضافة الى ما ذكرناه، فهو يعتبر أول موسيقي يبتكر فرقة موسيقية، «أصيل» بمواصفات عربية مشرقية شاملة، من دون ادخال آلة غربية. كانت في البداية تختاً موسيقياً تقليدياً عام 2003، عود وقانون وناي وايقاع، وبدأ سعيد يضيف آلات اخرى إليها لإغنائها مع إبقائها في مناخ شرقي بحت، فأضاف البزق، ثم «عود الباص» ثم «السنطور»، واليوم جعل لعائلة العود مكانة هامة، بأصواتها الحادة والمتوسطة والخفيضة (باص)، بديلاً من استخدام آلة الغيتار الغربية (الباص) او (الكونترباص) مثلاً، وبذلك منح الموسيقى صوتاً دافئاً كقاعدة متينة تستند اليها الاصوات الاخرى، كما استفاد من عائلة الكمان (السوبرانو) و(الفيولا) الوسط، و(التشيللو) كونها وترية تنطق ربع الصوت الشرقي، وبات «السنطور» الى جانب «القانون» جزءاً من فرقة سعيد، وهي الآلة المستخدمة في العراق وتحديداً في غناء قالب «المقام العراقي»، وتستخدم في إيران ايضاً، حيث هام مصطفى بموسيقاها وآلاتها مثل آلة «الزرب» أو (الضرب الطبلة) التي تختلف عن الطبلة العربية كما آلات «البندير» و»الطارة» بأنواعها.

إذاً هو شغف الموسيقي سعيد، بكل ما هو جديد ومختلف وغير متداول ومؤثر، ويمنح الفخامة والرهبة في آن، وما يجعل المستمع ينصت باهتمام، فتعلق الأنغام في ذهنه وذاكرته السمعية والوجدانية، وكل ما يصب في تغذية مخزونه، وتجديد دمائه الموسيقية، من دون اللجوء الى تقليد الغرب او الاقتباس منه او استعارة آلاته، وبرأينا هذه العناصر معاً شكّلت شخصية مصطفى سعيد الموسيقية المختلفة، وهذا ما قصده في عبارته التي ذيل بها غلاف اسطوانته بقوله تحت عنوان «بردة»، وصلة من المقام العربي المعاصر، «تجرّؤ على التراث تمرّد على الحداثة».

نعلم ان اسطوانة «بُردة» لن تنال الإنصاف الذي تستحقه اليوم، لكن الأكيد أن التاريخ سينصفها بعد سنوات.

نشرت في المستقبل