وعلى ذكر التعليم المدرسيّ، خطر في بالي ما درسته في الجامعة في النقد الأدبيّ عن فكرة الصنعة والتعبير، و أنّ جماعة الكلاسيكيّين الجدد كانوا يهتمّون بالصنعة على حساب التعبير، و أنّ جماعة الرومانطيقيّين اهتمّوا بالتعبير أوّلاً، و قالت لي سيّدتي رضوى عاشور في نقاشٍ بيننا ردّاً على قولٍ لي أرفض فيه هذه التقسيمة، أنّ النقد الغربيّ قد تراجع في الآونة الأخيرة عن هذه الأفكار، و أنّهم الآن يعيدون قراءة هذه الأعمال و هذا التاريخ بشكلٍ عام. فاستنتجت أنا أنّ جامعاتنا تنهج منهج الملكيّ أكثر من الملك! كالعادة.
وقرأت أيضاً لناقدٍ أدبيٍّ أنّ جماعة هُبَل، إذا أخذنا أنّ هبل هي تعريب أبولو، المهمّ، جماعة أبولو من وجهة نظره، انتفضت على جماعة الكلاسيكيّين الجدد وانتفضت على الشكل التقليديّ للشعر العربيّ واهتمّت بالتعبير أكثر من الصنعة. لكنّي أعلم أنّ القوم قد جعلوا رئيسهم الشرفيّ أحمد شوقي، فكيف انتفضوا و وضعوا رئيسهم بإرادتهم من الجماعة التي انتفضوا عليها!
"لا أظنّهم قد عصروا "لمونة ولا فوّضوا عالناشف!!!
أمّا في النغم، فسبب ما نحن فيه من حالة تقديسٍ لبعض الموسيقيّين الذين عاشوا في منتصف القرن العشرين، فهم جماعة النقّاد المدرسيّين أنفسهم، هم الذين استوردوا من النقد الغربيّ فكرة التطريب
والتعبير.وفرضوها حتّى أنّ الرافض لها في نظرهم جاهل.
تعالوا بنا نعاين فكرة التطريب والتعبير:
قرأت في كتابٍ أنّه في أوبريت العشرة الطيّبة (إلّا همّ: ليه استعملوا "أوبريت" و ليس "صورةً غنائيّةً" مثلاً؟ أو مسرحيّةً غنائيّة!!! عموماً!!!) في أوبريت العشرة الطيّبة، خرج سيّد درويش لأوّل مرّةٍ عن النسق التطريبيّ بالتعبير باللحن عن الكلمة، عشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي، فالتعبير هنا جاء بحركة الأربيجيو صاعداً في نعلا ونعلا ونعلا، ثمّ هابطاً في نطاطي نطاطي نطاطي. هذا صحيح، لكن الغريب أن يُصبح هذا مثلاً عند سائر نقّاد الجمهوريّات العسكريّة دون تدقيق، ظنّي أنّ حضرة الناقد الأوّل قد أعجبه هذا المثل لأنّه قد حمل نزعةً أوربيّةً في التعبير بالنغمة عن الحال. فحتّى لو كان من المتعصّبين للشيخ سيّد درويش، كان ينبغي له أن يدقّق ويعلم أنّ هذا اللحن ليس أوّل ما استخدم الشيخ سيّد هذه الطريقة في التعبير المباشر باللحن عن الكلمة، فللشيخ سيّد ألحانٌ كثيرةٌ استعمل فيها نفس الأسلوب لكن بغير الأربيجياتو.
وأمّا في المطلق، فإنّ كتب الموسيقى تُبرز وجود التعبير المباشر بالنغمة عن الكلمة، أشار إلى هذا الأسلوب صاحب كتاب الأغاني، ومن المدوّنات القديمة مثلاً، نستطيع أن نترجم حالة السكر بالنغمة في ساري عسكر داير يسكر، التي دوّنها فيلوتو بالتدوين الأوربي في الجزء الثامن من كتاب وصف مصر. أمّا الأدوار و الموشّحات، و حتّى طقاطيق العوالم فبها ما بها أيضاً من ترجمةٍ مباشرةٍ بالنغمة لمضمون الكلام، فانظروا مثلاً في دور عهد الأخوّة، كيف تُترجم بالنغمة جملة "عيد البشاير والفرح"، أو "طالع سعودك جدّ بالنصر فوق الحدّ"، أليست هذه ترجمةٌ بالنغمة مباشرةً لمعنى الكلام يا متعلّمين يا بتوع المدارس؟
إذن يبدو أنّ الفصل بين التطريب والتعبير عند نقّاد الجمهوريّات العسكريّة هو مجرّد فصلٍ بين طريقة التعبير المنبنية على نغمنا وطريقة التعبير المستوردة من أنظمةٍ نغميّةٍ أُخرى.
شخصيّاً أنا أطرب من موسيقى باخ وموتسارت واسترافناتسكي وشونبرغ، وأجد في التطريب تعبيراً وفي التعبير طرباً.
لا يمكن أن يُطرب صاحب نغمةٍ دون تعبير، ولا يمكن أن يصل صاحب نغمةٍ للتعبير إلّا أن يصل مستمعه للطرب. الطرب والتعبير كلٌّ لا يتجزّأ
أبوس إيديكم ارحمونا!!!